ارتياب

ارتياب

كانت تسلي وحدتها بنسج أطياف حلم. تراعي في نومها طقوس سكون لا تكسرها، فقد اختارت غطاء رماديا، لا يثرثر صاخبا بسعادة ما، ولا يتخذ زاوية باهتة متلحفا حزنا ما، هو يشبهها كثيرا إذ لا يشي بالكثير.
في ركن طاولتها تركت بعض الأوراق بيضاء، لم ترهقها بحمل الكثير من الصخب، كان يكفيها أن تصغي لتراتب الوقت واندفاعه بطيئا، متراخيا، باهتا، لا صوت له.  ترك تتابع عقارب الساعة ذلك الصدى الذي أرجح الأوراق ونزع عنها سكونها.
لا تدري إن كانت اشتاقت طيفه، إن أسرت له ببسمة على غير عادتها، فأجاب صدى أحلامها إذ كسر مساحة وقتها المحايد، ارتفع صوت هاتفها بالرنين، قلبت جسدها مرارا بين دفتي غطائها الرمادي عله يصبغها بروحه أكثر، فتتجاهل صراخ هاتفها.تركت لأصابعها التوغل في خصلات شعرها مرارا قبل أن تسمع صوته يقتحم مساحات يومها مغادرا ذاكرة الغياب للحظات. لامست شعرها كأنها تحيي الذاكرة المهجورة، تعيد إلى مساحة يومها طيفه الذي مر وقت طويل وهي تحاول الهروب منه.
كم يربكها صوته الآن. باتت على مسافة منه، حرصت على الهرب من مرمى عينيه، يكفيها الآن أن تتعلق بصوته المربك لروحها، أن تتلمس في كفيها الآن رعشة مجنونة، تتأمل في أمسها ذاكرة قتلتها، وأماكن هجرتها، حالمة بعمر مديد لأطياف زرعت قلبها بها.
يحتفي بأطياف ما تبقى من صوتها، لا تكاد تحس روحها بين ذراعيه. هو لا ينطق بالكثير، لا يرهق نفسه برسم الحروف في شفتيه، بهدوء محارب غارق يهزائم صنعته شخصا آخر، يحدثها، يبتسم لصمتها القسري، واعيا أكثر مما ينبغي لارتباك صورتها في حدود صوتها.
هي لا تحب غيابه، تمضغه بألم، تقبله بمرارة، لكنه حضوره لطالما شتتها، واثق هو دوما،حادة كلماته، تترك في روحها أثرا جارحا، تتذكرها واضحة، حادة واثقة، جارحة، لكنها لم تكن قاسية تماما.
لم تسمع صوت روحها مسبقا، هي ما اعتنت يوما بما تحب،بأي شيء تفكر، أي طقوس تعجبها، أتراها تحب الصخب وتتنفس موسيقى لا يكاد ترادفها الصاخب يترك ذلك المتسع للروح لتحيا شيئا ما، أمام عينيه رأت نفسها جسدا باهتا تلفه وحدة صنعتها روحها وفي عينيه أيقنت نفسها جسدا معتقا بالغباار. كان يكفي أن يكون موجودا ليبعثرها ويشتت سكونها.
هو ليس مشتاقا لصوتها الذي لا يكاد يذكر كم مرة تدحرج إلى أذنيه، لم يكن فضوليا يفتش في أيامها عن سكان جدد استوطنوا أمكنته، كان يكفيه أن يصغي إلى ارتباك أنفاسها، ارتجاف كفها الذي يحسه يسري فيهز صوته الواثق.
تحدث بأي شيء، بكل شيء، رتب الحروف واثقة، استرسل في سردها مراعيا أن يترك لها في مساحات صمته الضئيلة لوحة تستعيد بها صورته، شعره الأبيض وحدقتيه البراقين وذارعين طوقاها ببسمة.
حدثها كأنه أعادها بين ذراعيه، كم أراد أن يقول لها أنه لا يفكر بإعادة صياغتها، أنها  لم تكن ركنه القديم الذي أراد ترتيبه ، هي فقط لوحته الهاربة التي بدأ برسمها وأضاعها في فوضى أيامه، هي قصته الجانحة التي لم تستسلم لنهايات أحبها.


تعليقات

المشاركات الشائعة