رام الله التي هناك " استرجاع لوطن في أعماق الذات "

رام الله التي هناك العنوان الذي جاء موحيا بذلك الحنين لمكان تكاد تتبدل ملامحه كل يوم، رام الله التي هناك السيرة الذاتية الصادرة عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في بيتونيا / رام الله العام 2016 كأحد الأعمال الأدبية المقدمة للأطفال واليافعين للكاتب والقاص محمود شقير .
ولد محمود شقير في جبل المكبّر/ القدس، عام 1941. حصل على ليسانس فلسفة واجتماع من جامعة دمشق، 1965. بدأ الكتابة سنة 1962 ونشر العديد من قصصه القصيرة في مجلة الأفق الجديد المقدسية.عمل محررا ثقافيا في أكثر من منبر أدبي فلسطيني وأردني، ونشر قصصه في أهم واعرق المجلات الأدبية العربية. صدر له ، 34 كتابًا في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا وأدب السيرة وأدب الأطفال، كما قدّم ستة  أعمال مسرحية ، وكتب حواراً لعدد من المسلسلات التلفزيونية العربية المعروفة. ترجمت قصصه إلى أكثر من عشر لغات، وصدرت مختارات من أعماله في عدة لغات حول العالم، كما كان أدبه موضوعا لعدة رسائل أكاديمية في فلسطين والعالم العربي وأوروبا.
أنا هو و المكان :
يربط الكاتب في نصه الذاتي في علاقة مزدوجة سريالية بين الذات والمكان، إذ يعرض أوراق وذاكرة المكان رام الله ويبقى البطل الثاني المساند لخالة شغب المدينة وعبثها، فهي الصبية البدوية التي لا تعرف الطريق إلى المدينة وصخبها، وهو الطفل الذي يراقبها على مسافة من الترقب والانتظار، لا إلى هنا ولا إلى هناك، يخوض غمار استكشاف المكان على دراجة هوائية برفقة بعض الأصدقاء ويعود محملا بالدهشة طفلا، كأنه يعدها سأعود ثانية و أدهشك أنا في حينها .
تلك .... ذلك وموزيييك الابتعاد :
رتب الكاتب صوره المتصلة في الذاكرة بمدينة رام الله مراعيا تراتب الوقت أحيانا وتسلسله، تكبر رام الله فيكبر، تتسع علاقته بها، تتشعب، يعرف أماكن أكثر، يقضي وقتا أطول بين جدرانها، يتصفح وجوه الطلبة فوق مقاعدهم الدراسية وهو يمارس مهنة التدريس، يبدل أماكن سكنه، تتغير أمامه الوجوه، يقلب وظائف مختلفة، لكنها عناوينه التي اختارها لتبويب كل جزء يتحدث فيه، تطل موحية بتلك المسافة وذلك الابتعاد، فيقول: تلك المدينة، ذلك الشارع، ليعكس حالة من التجاذب والاحتدام في نفسه، فهو الذي يروي اليوم ذاكرته الخاصة متصلة بذاكرة المكان وصورة رام الله بين الجبال، وهي ذاتها المكان الذي يغير ملامحه كل يوم ويختلف عليه، يقلب صورته كل يوم ، يصخب سريعا عاجلا لدرجة لا يجد فيها الوقت ليقتبس لنفسه فيها ذاكرة جديدة مع المكان .
التعليم بداية الوعي الأولى :
قدم الكاتب  سيرته الذاتية بشكل مشوق، ومتصل مع الذاكرة الجمعية للبلاد وما اتصل بها من أحداث سياسية و تاريخية ، وقدم لبدايات تشكل الوعي الفلسطيني الجمعي من خلال المراكز التعليمية والمدارس ، رغم ما كانت تخضع له من حكم أردني، وإدارة عسكرية ومدنية إسرائيلية في وزمن لاحق من الاحتلال، حيث عرض الكاتب تجربته الحية في التدريس، واختلاف المكان و أثره في القدرة على التعبئة الجماهيرية، حيث مارس شقير تدريسا ممنهجا انتظاميا في بداية تعيينه، في قرية هادئة وادعة " خربتا" ولكنه ومع انتقاله من مكان إلى آخر، ومع تغير الواقع السياسي وخضوع الضفة الغربية والقدس إلى الاحتلال الإسرائيلي ، بدأ يقوم بدور مختلف في نقل الوعي إلى الطلاب، ومحاولة التأثير وإحداث تغيير حقيقي على الأرض.
يثبت الكاتب خلال ما يقدمه من تجربة أن البيئة التعليمية دوما هي نواة لرفد المجتمع بقادة الغد، وصناعه، و أن أي تشويه قد تجده في صورة المجتمع يعود مرده إلى البيئة التربوية الثانية " المراكز التعليمية" بعد اجتيار البيئة الأولى " الأسرة" فالمتتبع لمسيرة النضال الفلسطيني يلاحظ دورا رياديا للكليات والجامعات والمدارس في النهوض بالواقع الفلسطيني و إحداث تغيير حقيقي جاد  و ملموس على الأرض .
القراءة .... الكتابة و مساحات السكون :
يهتم الكاتب بإيصال رسائل تربوية شيقة بطريقة واعية سلسة راقية، إذ يقدم نفسه كنموذج لجيل جديد من اليافعين والأطفال، وهو الآن الكاتب والقاص بكل ما لديه من إنتاج أدبي خلاق، يتحدث عن بداية عهده بالقراءة في منزله أولا، ثم يقدم تجربته في التدريس في منطقة نائية ساكنة هناك حيث استثمر هدوء الوقت بعد انقضاء دوامه المدرسي في القراءة وما أفضت إليه قراءاته فيما بعد من كتابات عديدة شقية، ولا يغفل الكاتب عن التلميح إلى ما تسمح به القراءة من اتساع للأفق فكريا وجغرافيا، فقد كان اطلاعه على مجله الأفق التي تصل إلى المدرسة التي يدرس فيها بابا سمح له فيما بعد بمراسلة المجلة ونشر بعض المواد خلالها، ليبدأ مسيرة طويلة من الكتابة والنشر في أماكن ومطبوعات مختلفة .
وطن يسافر معي :
وحين يكتب الفلسطيني سيرته الذاتية يكاد يكون عاجزا عن الانفصال عن الوقع التاريخي المتنامي في البلاد، فإذ يروي ذاته يروي البلاد أيضا، ويحكي تاريخا طويلا عنها، روى محمود شقير في حديثه مدينة القدس والتقسيمات الإدارية فيها، وما آلت إليه الأحوال بعد احتلال عام 1967، كما تحدث عن الحكم العسكري الإسرائيلي وحركات النضال الفلسطينية المتنامية بخوف وصعوبة آن ذاك، وما آل إليه أفرادها من اعتقال ، ونفي وإبعاد، وتحدث ضمن ما أورده من حديث إداري للمؤسسات التعليمية عن دور الحكم الأردني إبان الوحدة بين الضفة الشرقية والغربية والسيطرة الأردنية في الضفة الغربية، قبل أن تمنى فلسطين باحتلال كامل ترابها في حرب عام 1967 . لقد تعرض الكاتب في خضم كل هذا إلى الاعتقال مرات عديدة، وانتهى به الأمر منفيا ، قبل أن تسمح له السلطات المحتلة بالعودة إلى فلسطين مع تشكل السلطة الوطنية الفلسطينية العام 1994 ، حيث عاد محاولا ترميم ما تبقى من ذاكرة شخصية لديه، كما حاول إحياء بعض التجارب الأدبية والمجلات الثقافية، ونجح في ممارسة دور أدبي ريادي تجاه المؤسسة الثقافية الفلسطينية حديثة التأسيس ، ونجح في تمثيلها في العديد من المحافل الثقافية دوليا .
هي فلسطين التجربة الأكبر التي قدمها محمود شقير في كتابه، رام الله التي هناك ، هناك حيث الذاكرة والوعد بالمختلف والجديد الذي لا نشيح بذاكرتنا عنه فنقول: " لا لم تكن أيدينا ترغب بصناعة هذا تماما، الخيال  مغاير عما وجدنا حقا، ومختلف حقيقة عن كل التصورات"  

تعليقات

المشاركات الشائعة