كلمات بحبر سري
كثيراً ما قلبت صفحات كتاب " أوراق من الذاكرة" للكاتب عبد السلام عابد، مررت فوق حروفه، و تشبثت بالكلمات، و استعيد الآن تلك الدفقة الشعورية التي تملكتني لحظة القراءة الأولى، فسارعت في مشاركتها لبعض، و دونتها ضمن منشور صغير في صفحتي على الفيس بوك:
(متى تصبح أوراقنا جزءاً من الذاكرة، نقلبها و ننظر إليها بحنين مرة، و بكبرياء مرات، نكتبها بحبر سري في لحظة متأملة لوقع يومنا، وصوتها في أنفسنا، حبرنا السري الذي يعبر الوقت فوقه، يبهت لونه،تغيب بعض كلماتنا و بالكاد نذكرها، لكنه حبرنا يصير روحنا التي نشاركها بود، في طي أوراق و بلاد، و كثير كثير تخبئه كلمات الكاتب عبد السلام العابد كلما مررت فوق صفحاته.)
كان هذا تساؤلي الذاتي الذي يمكنني مشاركته بصوت عالٍ، رغم عدم قدرتي على التفكير بذلك الوقت الذي يمكنني فيه مشاركة أوراق من الذاكرة، وخلف هذا التساؤل العلني وقفت ودهشتي، أتأمل وعي الكاتب و قدرته المذهلة في أن يضع بين أيدينا أوراقاً كتبها في شبابه، في سبعينات القرن الماضي، من ذاكرته، كتبها بتسلسل أنيق، و عرض فيها لصور مختلفة من نفسه، و كثيراً ما عاتبت الحروف و الكلمات و أنا أحاول الكتابة في ظلال ( أوراق من الذاكرة)، و لا زلت أتساءل إذا كان يجدر بي الوقوف في ظلال الذاكرة، ألا أكون محض متطفلة.
أدب الفتيان ... و أوراق من الذاكرة:
في مقدمة الكتاب الصفحات الأولى التي يكتبها الكاتب عبد السلام عابد في لحظة "الآن" التي نعيشها، و يروي عثوره على صفحات من ذاكرته يوم كان فتى في مثل عمرنا، _بالتأكيد ليس في عمرنا لحظة الآن هذه التي أكتب فيها_(
عثرتُ بين أوراقي على دفترٍ قديم، كنتُ أسجل فيه يومياتي ومشاهداتي وانطباعاتي، وأنا فتى في عمركم، أيها الفتيان الأعزاء والفتيات العزيزات)، هكذا يقدم كتابه بروح الناقد الذي كان، فيصنفه كواحد من كتب الفتيان والفتيات من اليافعين، وليس هذا التصنيف لغضاضة الإنتاج الأدبي، أو بساطته، لكن لأنه واحد من النماذج التي توثق ببساطة لأوراق من تاريخ المجتمع من بلسان شاب صغير، يعرض تجربته بمصداقية عالية، فنحن نحترف الاحتيال على مسافة من العمر، كما أنه يهتم بتوثيق جغرافية و تاريخ الأماكن التي يزورها، حيث يصف بحرفية أدراج مكتبة البلدية العامة في جنين، رفوفها، الكتب، و الطريق إليها، ووصف المكان و الطريق بذهنية شاب غض محب و متعطش للقراءة، تختلف تماماً عن أي وصف يمكن أن يقدمه الكاتب نفسه الآن للمكان ذاته، المكان الذي لم يتغير كثيراً لولا عبث قوات الاحتلال الإسرائيلية في بعض زواياه و شبابيكه.
صور من الذاكرة:
أحب أن أقول أنها صور، فالحقيقة أن التقاط الصور أمر صعب، و بالكاد أجد لنفسي بضعاً من صور، بعد جهد عميق من البحث، فكرة اختزال الزمن، و اكتناز اللحظات و وضعها طي الأوراق، فكرة قيمة مذهلة سريعة و مذهلة كالتقاط الصور و اكتنازها من الزمن، أما الأكثر جمالية من اكتناز الصور فهو ذلك القرار بالبوح بكل هذه الذاكرة الفردية الخاصة و الجمعية العامة المذهلة، بتسجيل عميق للحظة الزمن القادم.
الكاتب و صقل التجربة:
(أحيانا ينتابني إحساسٌ بأن رأسي فارغ، وأنني بحاجة إلى القراءة، والبحث والتعمق في الكتب)، بهذا العطش يسجل الفتى عبد السلام عابد إحساسه العفوي، و رغبته في قراءة العديد من الكتب و مطالعة كل حديث و جديد، يورد الكاتب صورته وهو طالب على مقاعد الدراسة، و يتحدث عن صفوف اللغة العربية و تأثير معلميه فيه، كما يقدم لنا وعي شاب يقرأ الجريدة عن كثب، و يلفت انتباهه إعلان حول منشورات حديثة عن دار الأسوار، فيراسلها ليحصل على منشوراتها الحديثة، و معا نرى تقليبه و قراءته العديد من الكتب و العناوين التي يسجلها في مذكراته، و بوعي كاتب فذ يذكر أسماء الكتب التي يقرأها، و يورد أسماء كتابها، ويكتفي بذكر بعض التفاصيل العامة حول كل كتاب من الكتب التي يقرأها و تأثيرها فيه، تعكس العناوين و أسماء الكتاب حالة الانفتاح الإعلامي الفكري والثقافي على الدول العربية، حيث تنوعت قراءاته لكتاب من دول عربية متنوعة.
قراءات أدبية وصورة لما يكتب:
وفي البال خوف آخر في نفسي، و ربما خجل عميق، ولا زلت أتساءل هل يمكنني متابعة الكتابة في ظلال (أوراق من الذاكرة)، أكتب عادة ثرثرة كبيرة، ربما تكون عميقة أحياناً إلى الحد الذي أغرق فيه في ذهولي، لكني هذه المرة أتابع بثقة و حذر شديدين السلاسة التي يسجل فيها عبد السلام عابد لارائه حول كتب و موضوعات قرأها، يكتب بوعي، و إيجاز واثق ثاقب، و يترك لدي و ربما لديك فضولاً صاخباً، لا يمكنك بعده إلا البحث عن هذه العناوين لتقرأها بدورك، أتساءل الآن و أنا أنظر في مرآتي، أقصد في صفحاتي التي كتبت، هل كانت الكتابة فعلاً مجدياً، و هل دفعت أحدهم في مكان ما للقراءة حول أي من الكتب التي قرأتها و كتبت حولها سابقاً ؟!
التعليم و التكوين:
التفت الكاتب في كتابة مذكراته إلى الواقع التعليمي في الفترة الزمنية التي واكب فيها شبابه، وربما كان دمثاً شهماً، فلم يتعرض بالنقد الكينونة التربوية والتعليمية آنذاك، ولا طبيعة المدارس، كما لم ينتقد النمط و الكتب التعليمية، حيث يتحدث عن حصوله على درجة الماتريك، و بوعي كاتب فذ يهتم بتوثيق اللحظة العامة قبل احتفائه بنفسه و نجاحه في الثانوية العامة، يورد قائلاً:
(
وبعد طول انتظار، وتلهف وشوق؛ لمعرفة نتيجة الفصل الدراسي الأول في امتحان الثانوية العامة، وصلتنا النتائج. كان الطلبة يحبسون أنفاسهم، وهم في غاية التوتر والقلق. كان ترتيبي الأول، بمعدل جيد جدا. شعرت بالسعادة والفرح، ولكن هذه الفرحة لم تكن مكتملة؛ ذلك أن عددا كبيرا من زملائي، رسبوا في بعض المواد الدراسية، أو لم تكن نتائجهم مرضية؛ فاستسلموا لحالة من الحزن واليأس، وراحوا يبررون الأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة المؤسفة، فهم يرون أن النتائج العامة على مستوى الوطن كانت سيئة؛ نظرا لصعوبة
الأسئلة...) فهو ينظر في العموم قبل أن يحتفي بنجاحه في الثانوية العامة، وهو الحدث الهام الذي تناوله لاحقاً في العديد من الجوانب، وكيف تلقاه الأهل بعد الفصل نتائج الفصل الدراسي الثاني من الثانوية العامة، كما تحدث عن نقطة التحول الهامة في دراسته الجامعية و انتقاله للدراسة في جامعة النجاح الوطنية.
عميقاً في البلاد:
يمكننا دائماً تصفح كتب التاريخ، و البكاء خلف كل هزيمة تاريخية منينا بها، بعد كل حرب من الحروب الإسرائيلية العربية الشكلية، التي تجرعنا نتائجها غالباً، و شربنا علقمها، إلا أن ملاحظة أثر هذه التغيرات و الحروب في يوم طبيعي لشاب يدرس في المدرسة، أو في الجامعة، أو في طريقه إلى بيته بعد قضاء الوقت في الحقل، تجربة إنسانية غنية وهامة، على أن كتب التاريخ لن توثقها لنا.
(أذكر أنني كنت عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين، في الصف الخامس الابتدائي، كنت في البيت مع أختي، أبي وأمي كانا يعملان في الحقول، وعندما هرب الجيران، رحلنا معهم، ولجأنا إلى مغارة قريبة،...وبعد فترة من الوقت، خرجت وحدي؛ لأبحث عن بقية أسرتي، وفجأة علا صوت الرصاص...)
الحرب، أن تجد نفسك بين ليلة وضحاها في كتف مغارة، أو غائباً بين حجارة و صخور الجبال، أو نائماً بين حقول الزيتون، و أنت الفتى ابن الأرض، ابن الخمسة عشر عاماً، تحب البلاد، و لا زلت شابا لا تهاب الوقت، ولا ترهب أزيز الرصاص، صوت الدبابات، قرقعة الآليات العسكرية.
أشكرك كاتبتنا المبدعة سعاد شواهنة على هذه القراءة الواعية والعميقة ودمت بخير وعطاء نوعي جميل
ردحذفشكراً لك
حذفسعيدة جداً برأيك و قراءتك ما كتبت
دمت بخير