الهوية

الهوية

الهُوِيَّة لغوياً وفلسفياً 

يُعرِّف "المُعْجَمُ الوسيطُ "الهُوِيَّةَ"، فلسفياً، بأنها: حقيقة الشَّيء أو الشَّخص التي تميزه عن غيره. وفي تعريفه لمصطلح "الهُوَية"، من منظور التََّصوف، يذكرُ المعجم أنه "الغيبُ الذي لا يصحُّ شهوده للغير كغيبِ الهُويَّة المُعبَّرِ عنه كُنْهَاً باللاتعيُّن، وهو أبطنُ البواطن". ويذهب المُعْجَمُ إلى تحديد معنى آخر للهويَّة حين تُضاف إلى الكلمة "بطاقة"، أو تُوصف بالنَّعت "الشَّخصية"، لتجعلنا نحصل على المصطلح "بطاقة الهُويَّة" أو "البطاقة الشَّخصية"، المُتَدَاوَلين حديثاً، فيذكرُ أنَّ "الهُوِيَّةَ بطاقة يثبتُ فيها اسمُ الشَّخص وجنسيتهُ ومولدهُ وعمله"  
وفي كتابه  يُعَرِّفُ الجرجاني الهُوِيَّةَ بأنها: "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق إشتمال النُّواة على الشجرة في الغيب المطلق" 

الهُوية بنيةٌ مُتَحوِّلة، وقيمٌ جوهرية قابلة للتنزيل ،ليست الهوية بنيةً مغلقةً وإنما هي بنية مُتَحَوِّلةٌ باستمرار، ولكن على محور ثبات! إنها مصطلح يعكس نفسه تحت مجهر الزَّمن ومعاييره، وفي سياق علاقة تبادلية تنهض على تفاعل، متحقِّقٍ أو مكبوح، مع معطيات الوجود ومكونات المحيط، بحيث لا يُمكن التعامل معه بمعزلٍ عن إدراك مناحي تأثُّره بالسلطة الزَّمنية للتاريخ، وبمعطيات حركة الحياة وغايات الحراك، أو السُّكون، الثقافي: الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والقانوني.
وليست الهوية، واقعاً ثقافياً أو مجتمعياً ناجزاً، وإنما هي قيم جوهرية تتنزَّل في واقعٍ تتجدد فيه بفعل فهم الإنسان وإدراكه وديناميته، وقدرته على مواجهة مشكلات حياته وعصره، وتخطِّى الضَّرورات التي تحكمه، وتحدُّ من مدارات حريته، أو هي قيمٌ جوهريةٌ تكون معرَّضةً لأنْ تفقد جوهريتها إنْ هي جَمُدَت أو ماتت، أو فقدت استمرار كينونتها في مطلق تجوهرت في رحابه، وذلك إنْ توقَّفت عن أنْ تكون قابلةً للتنزيل في واقع الحياة الإنسانية، أو كفَّ الإنسانُ عن قراءة رسائل الوجود، أو استمرأ العيشَ في حاضرٍ من الإغراق في الجهل، والرَّكون إلى حائط زمنٍ أفقي لا يعرف كيف يكون زمناًً حاشداً موَّاراً بالحياة، أو تماهى بماضٍ تستحيلُ استعادته، أو بمستقبل لا يُمكن الوصولُ إليه! 

وربما نحتاج إلى أنْ نقرأ "هُويتنا" قراءة متوازنة تدرك قوانين التطور والتغير، وتحلل العلاقات القائمة بين الظواهر المعاصرة والتاريخ والقيم المطلقة المتعالية على الزمان والمكان، وذلك كي نحسن فهم "مفهوم" هذه الهوية، وكي نؤسِّس تحولاته الممكنة على تفاعل الحاضر مع الماضي الحي، ومع آفاق التطور الإنساني المفتوح، ومع الحاجة إلى تنزيل القيم المتعالية إلى وقائع حيَّة.
ومن الحقَّ أنَّ معرفة الذات الفردية والجماعية معرفةً عميقةً ومتشعِّبةً تفضي إلى تصفيتهما من الوهم والإيديولوجيا والأخيلة الزائفة والجموح الفارغ، إنما هي القاعدة التي يُمكن أنْ يتأسَّس عليها الكلام على الهُويةِ بوصفها ثروةً حضارية. وبهذا المعنى، فإنَّ الهوية ليست مطلقاً يسبح في فضاءٍ بلا هُوية، وإنما هي "ذاتٌ إنسانية"، فردية أو جماعية، تنصهر في "ذات ثقافية" تقوم على التعدُّد والوحدة، وعلى التَّحول الدَّائم على محور ثبات، تماماً مثلَ القناع الذي هو "بنيةٌ عميقة، أو  منظومة علاقات ثابتةٍ ومتحوِّلة يُمكن إدراكها من خلال المحور الثابت الذي تتحرَّك عليه تحولات تُرسَّخ دلالة أنَّ الهوية في تخلُّق مستمرٍ، وأنَّ الذات لا تجد حضورها إلا بانفتاح الأنا على ذاتٍ تتجسَّد في آخر سواها.

وفي مسعى  للشُّروع في الكلام على العلاقة ما بين الثقافة الفلسطينية، والهوية الفلسطينية عبر توضيح العلاقة التفاعلية ما بين الهوية كـ "ذات إنسانية"، والهوية كـ "ذات ثقافية"، بوصفها علاقة لا يُمكن أنْ تتحقَّق إلا في سياق إنسانيٍّ حضاريٍّ مفتوح، دعونا نتأمَّل قليلاً في عبارة جاءت محمولةً على صوتٌ نطق قصيدةً كتبها الشَّاعر محمود درويش! تقول العبارة: 
" كلُّ الشعوبِ تزوَّجت أمي وأمي لم تكنْ إلا لأمي.

ربما نستطيع عبر إمعان الإصغاء إلى هذا الصَّوت أنْ نكتشف نبرة الذات ونبرات الجماعة وقد توحدتا في نبراته ليصير صوتا مفردا في صيغة جمع، أو جمع في صيغة مفرد، وذلك على نحوٍّ تتبدَّى معه الذات الإنسانية الفردية وقد التحمت بالذات الإنسانية الجماعية مُجسَّدةً في "ذات ثقافية مُشتركة" تتأسَّس على خصائص جوهرية تتحدَّد، جوهرياً، عبر اختلافٍ يُميزها عن ذوات ثقافية أخرى تتميَّز عنها، أو تتعارض معها. وهكذا صارت الذات الفلسطينية، في دلالة العبارة التي نحاول قراءة دلالاتها، مرآةً للأنا والنَّحن اللذين تبديا بوصفهما مجالاً حيوياً لحضور تلك الذّات الكلية الجامعة واقفةً أمامَ مرآتين متناظرتين تتبادلان الانعكاس: مرآة الثقافة، ومرآة الهوية.
وأيضاً، ربما نستطيع أن نقرأ في هذه العبارة، المحمولة على صوت تعرَّفنا بعضَ خصائصه، إلماحاً إلى وحدة الهوية مع الإقرار بتعددية مصادرها الثقافية، مثلما نستطيع أنْ نقرأ فيها ما يُشير إلى إيغال الذات الثقافية الفلسطينية في قدمٍ مكَّنها من الانفتاح على حضارات أمم العالم وشعوبه جميعاً، انفتاحاً لم يحل دونها وتأكيد فرادتها وتميزها عبر الاحتفاظ بمطلقاتها وخصائصها المميِّزةِ هُوِيَّةَ مُبْدعِها (أي الإنسان الفلسطينيِّ) منزَّلةً، باستمرار، في منجزاتٍ ثقافية حفل بها تاريخها الممتد منذ كانت في الحياة أمٌّ وكان أب، والذي سيواصل الامتداد طالما ظلَّ في الوجود إنسان فلسطينيٌّ قادر على التقاط رسائل الوجود وبثِّها محمولةً على صوت يقول:
" كلُّ الشُّعوبِ تزوَّجت أمي وأمي لم تكنْ إلا لأمي"

تعليقات

المشاركات الشائعة