جوانتنامو ضيق الجغرافية واتساع النفس

( كأن كل ما كان ما كان)، بهذه الكلمات يستهل الكاتب يوسف زيدان صفحات روايته ( جوانتنامو) قبل أن يشرع في بناء متن الحدث، وكأنه يقدم لصفحاته ال 288 بعبارة هزلية ساخرة، تلك السخرية اللاذعة التي تنحى منحى الكوميديا المسرحية السوداء.

صدرت رواية جوانتنامو في طبعتين في العام 2014، عن دار الشروق للنشر والتوزيع ،للكاتب يوسف زيدان وهو مفكر مصري متخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه. له عديد من المؤلفات والأبحاث العلمية في الفكر الإسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي. وله إسهام أدبي يتمثل في عدد من الأعمال روائي . ورواية جوانتنامو هي الإصدار الثاني الذي يستكمل الكاتب من خلاله أحداث روايته الأولى محال .

يقدم الكاتب في روايته أحداثا تكشف بيئة المعتقلات العسكرية الأمريكية التي نشأت في أعقاب الغزو الأمريكي لأفغانستان وباكستان والعراق، ورغم أن الرواية ركزت مساحتها الجغرافية في سجن حوانتنامو إلا أن الاتصال السياسي للأحداث جعل الكاتب يذهب بشخوصه للحديث عن سجن أبو غريب في العراق كصورة مشابهة لسجن جوانتنامو،في بيئة مختلفة جغرافيا في  العراق، وجاء الحديث من خلال شخصية رجل المخابرات الأمريكي الذي يتقن اللهجة المصرية بشكل كبير، وجاء كشفه وحديثه إبان وصول المؤسسات الحقوقية والإنسانية والإعلام إلى حقائق حول هذه المعتقلات.

صورة الغلاف حالة روائية:

قدم الفنان وليد طاهر لوحة الغلاف بألوان داكنة سوداء،وجسم بساقين ممتدين، إذ ينتهي الرأس في حدود نافذة صغيرة، تظهر على ضيقها،اتساع فضاء القمع الممتد، إلا أنها تمثل في الحين ذاته وعلى المدى البعيد للأفق الحلم بتغيير الحال وتحقيق الحرية . هكذا مثلت الرواية حالة روائية عكست من خلالها ضيق المساحة والأفق.  

ضيق الجغرافية واتساع النفس :

لقد حددت خيوط الرواية في جزئها الأول الملامح الأساسية والسمات العامة للبطل الشاب السوداني المصري الذي بدأ حياته في الميدان السياحي كمرشد، قبل أن يتجه للعمل في الصحافة،وانتهت خيوط الرواية عندما اختطف بين يدي القوات الأمريكية على الحدود بين أفغانستان وباكستان،هذا الحتف جعل جوانتنامو المصير الذي سارت إليه أحداث الرواية، حيث كان المعتقل المكان الجغرافي الضيق المحدود، الذي عوضه الكاتب باتساع روح وامتداد أفق الشخصية النفسية والروحية.

وفي الوقت الذي واجهت فيه الشخصية العزل الانفرادي في حالة من الاستفزاز النفسي،والقهر الذي مارسته السلطات، هكذا شرع الكاتب أمام شخصيته مساحات من البوح والتفكير، والحوار والتواصل مع الله، ومع النص الديني، والتفكر بالقرآن الكريم، و النصوص الدينية،حيث فتحت حالة الانعزال الباب أمام التعايش والتفكير بالنص الديني في حالة روحية تخلو من الخوف والرهاب من النص الديني .

الاحتدام بالآخر:

قدمت الرواية تصورا لثلاثة أنماط من الآخر التي احتدمت الشخصية الرئيسة (برس) بها،فالآخر المحيط هو جزء من الذات يساهم في تشكيلها وبناء معالمها، ويتدخل الآخر أحيانا في تقييم الذات، هكذا جاء الآخر الأمريكي الذي ألقى القبض على البطل مسميا إياه (برس) في حالة من التهكم والسخرية خلال المراحل الأولى من التحقيق في الأيام الأولى، وفي حالة من الاعتياد على الاسم وسهولته في المراحل الأخيرة من الاعتقال،كذلك فإن الآخر الأمريكي من المجندين والمجندات عزز لدى الشخصية الروح الإيمانية، وحفز ظهور الهوية الدينية الإسلامية من خلال الدعاء وتلاوة القرآن والصلاة، فإن الاحتدام بالآخر يحفز ظهور الهوية الذاتية لكل واحد منا.

أما الصورة الثانية للآخر فبرزت عندما انتقل البطل من العزل الانفرادي إلى الأسر حيث احتدم بالآخر المعتقل الشريك في الأسر، فصار له اسم جديد، حيث سموه زملاؤه الأسرى( أبو بلال)، وقد صار يؤمهم في الصلاة ويؤذن معلنا مواعيد الصلاة،هكذا لعب الآخر دورا كبيرا في تشكيل الشخصية وتحديد عدد من ملامحها.وقد شعرت الشخصية بالنبذ من الآخر المعتقل حيال قبولها حالة التفاوض مع الآخر الأمريكي. أما المعتقل التونسي فقد احتدم بالآخر المعتقل احتداما جعله يشعر بالإبعاد والنفي، فرفاقه في الاعتقال وجدوا في حادثة معاشرته القسرية لإحدى المجندات مضمارا للتندر والمجاذبة، سيما أن تلك المجندة ادعت أنها حامل و أنها أنجبت طفلة بعد مدة من الزمن.

أما الصورة الثالثة للآخر فكانت صورة مهيرة الزوجة والمرأة الباحثة عن حب جديد، في غضون شهر واحد من غياب زوجها واختفائه وانقطاع أخباره، فكانت الآخر صورة المرأة التي وجد فيها الحب، فصفعته بخيانة صادمة وبشكل سريع، إذ لم تعش الحزن والأسى المتوقع الذي من الممكن أن تعيشه سيدة انقطعت أخبار زوجها عنها.

الجسد مساحات انتهاك:

الجسد واحد من الأيقونات التي تتعرض للانتهاك بشكل مستباح في معتقل غير قانوني كاجوانتنامو، إن انتهاك الجسد لم يتوقف في حدود الحرمان من الحقوق الأساسية في الماء والنظافة، وممارسة العبادات سيما في العزل الانفرادي، لكنه اتسع إلى إجبار الأسرى على ممارسة الجنس مع المجندات، فالجنس متعة الجسد كانت واحدة من وسائل الابتزاز والانتهاك التي ابتدعتها السياسات اللا إنسانية في التعامل مع المعتقلين،إضافة إلى امتهان السجين بالاستثارة الجنسية من خلال ممارسة المجندين الجنس في زنازين العزل الانفرادي، كما حدث مع (برس) في ليلة رأس السنة في العام 2005 . ولم تشر الرواية أو تلمح إلى الشذوذ والمثلية في التعامل مع السجناء.

الأزمات وضبابية الرؤية:

الأزمان والحروب واحدة من الأوضاع غير الطبيعية التي تخرج النفس عن واقعها، وتعجز الدول والمؤسسات العاملة عن ضبط تفاعلها، هكذا يبدو عمل المؤسسات الإعلامية، وهكذا جاء احتجاز (برس) بشكل اعتباطي، بدعوى الاشتباه، فيكفي أن تكون مارا على الحدود بين باكستان وأفغانستان إبان اشتعال الحرب في 2002، أو أن تكون التقيت بابن لادن حين كان شيخا معلما مغمورا ليشتبه بك، واستمر اعتقال برس من العام 2002 حتى العام 2010 وهي مدة كبيرة نسبيا حملت الكثير من التغيرات في السياسات والأحداث في الوطن العربي. 

إن ضبابية الرؤية حركت الكثير من الملفات السرية، واعتقل واختطف عدد من الأشخاص بدعوى الاشتباه، في صورة تعيد للقارئ الفلسطيني ما يحدث في ملفات المخابرات السرية التي يتم بموجبها اعتقال الفلسطينيين وحكمهم إداريا وتمديد الأحكام تباعا، على أن الاعتقال الإسرائيلي لا يبقى سريا بعد انقضاء فترة الاعتقال الأولى والتحقيقات في مراكز التحقيق المتوارثة عن الاحتلال البريطاني والعثماني السابقين،حيث يمكن لمؤسسات حقوق الإنسان والصليب الأحمر تزويد الأهل بمعلومات بعد مرحلة التحقيقات التي قد تستمر لمدة تزيد عن شهر كامل.

بين المخابرات والطب النفسي التأهيلي :  

في محاولة للخروج من مأزق الإيقاع بالأشخاص الخطأ، والإمساك بهم، عمدت الإدارة الأمريكية إلى إدارة أزمتها واستثمار مثل هؤلاء الأشخاص، حيث سارت باتجاهين يبدأن من المنبع ذاته ويصبان في مصب واحد في النهاية، حيث بدأ العمل مع (برس) (أبو بلال) من خلال العلاج النفسي الذي قدمته سارة، الطبيبة ذات الرتبة العسكرية العالية، والاسم الذي تعود جذوره إلى اليهودية، إضافة للعمل مع برس من خلال أجهزة المخابرات الأمريكية التي تحاوره وتساومه على شكل الإفراج وماهيته ومكانه، وبين العلاج النفسي الذي يعده لقبول النهج والشكل الأمريكي والتعامل معه كحالة إنسانية وليس حالة سياسية،وقد تم العمل في هذين الاتجاهين لخلق إنسان جديد يتم تغذية النزعة الإسلامية لديه، وحشدها ليعود بقصة مبتدعة تبرر اختفاءه، وتؤهله لممارسة دور الشخص المتأسلم، حيث رأت السياسة الأمريكية إن ذاك الخيار خيار يلقى قبولا كبيرا وواسعا في المجتمع، ويساعد على تنفيذ السياسات الأمريكية والسيطرة بسلاسة و رضى.

تفسير الواقع:

يقدم الكاتب في صفحاته الأخيرة من الرواية تفسيره الخاص لما عاشته الشعوب العربية في تونس، الجزائر ومصر بداية، والذي درج تسميته بالربيع العربي،اللعب على حالة الركود السياسي في كثير من الدول لتكون الحافز لتغيير الأنظمة وقلب شكل الحكم باستخدام الشعوب من البسطاء، إلا أن الأمر يأخذ منحنيات عديدة أخرى، فنجد أن القائمين في تلك الدول تبدلوا وتغيروا وبشكل أسرع مما هو متوقع في مدة قصيرة نسبيا، التغيرات المتلاحقة السريعة صارت تعكس حالة مكشوفة من استشراء التدمير المفتعل للأنظمة القائمة، بهدف التخريب وهدم كينونة المجتمعات، وتهجيرها، والعبث بالهوية والقومية العربية والثقافية والإنسانية .   



تعليقات

المشاركات الشائعة