جعفر حجاوي وعي التجربة وعبء التنافس



جعفر التجربة باكرا:
لم يكن الشعر خيارا يسير إليه جعفر بمحض إرادته، بل كانت القصيدة الروح التي تسكنه، وتتحدث في صمته، وتراقبه من بعيد إذ ينشغل عنها لبعض الوقت محاولا إتمام دراسته،وقراءة بعض النصوص والكتب، والاحتفاء ببعض الأصدقاء.
الموهبة وعبء التنافس :
اختبر جعفر ثنائية الشعر والضوء، وثقل القصيدة وعبء الارتباك أمام وعي الجمهور، والاحتكام لبوصلة التحكيم، هذا العبء الذي يجعل الموهبة تهتم بالآخر " المتلقي" وذوقيته، وتحاول قريحة الشاعر في الوقت ذاته أن تصغي لروحها و وهويتها، وأن تبقي كفة ميزان الإبداع راجحة في كل الأحيان،ويحسب للشاعر أنه خاض غمار هذه التناقضات وواجهها وتخطاها في عمر مبكر من الإبداع، شابا فلسطينيا يعيش الحصار في بلد تسيجها المستوطنات، وتكاد تمتد لتخترق نسيجها الداخلي، يقدم تجربته في مسابقة الشارقة للإبداع الثقافي.
سوق عكاظ:
نمت قريحة الشعراء العرب في بيئة الصحراء، المكان المفتوح على امتداد البصر، والذي لا يمكن لعينيك أن تلمح نهاية واضحة لامتداد الأفق فيه، وهكذا جاءت فكرة استعادة روح التلاقي من أعراق و أطياف وانتماءات فكرية ودينية وسياسية متعددة متنوعة تحت سقف الإبداع، في الوقت الذي يصعب فيه فهم واقع التراكمات والتجاذبات السياسية في الدائرة حاليا.
لك أن تنحدر من منابع عدة، ولك أن تتكبد عبء إرضاء أذواق متنوعة،سعيا إلى هدف واحد، تحقق فيه النجاح على أن القمم ليست مكانا واسعا، ولا يكاد يتسع لكثيرين، لكنك من هناك تطل على امتداد بصر واسع، وقد كان مشوار الوصول شائكا، ولكن جعفر وقف قاب قوسين أو أدنى من خط النهاية إذ أحرز المركز الثاني في مجال الشعر في مسابقة الشارقة للعام 2017.
بكثير من الوطن:
تبدو قصائد حجاوي مسكونة بكثير من الوطن،لأنه أراد ربما، أو لأن إرادة القصيدة شاءت أن تحمل عبء جراح شاطئ غزة ومراجيح العيد، وقلق زوارق الصيادين،و أصوات الأمواج،وكان محموما بالقدس بأنين شوارعها،و ثقل جدرانها الغضة المتعبة إذ تصارع الوقت لتحافظ على نبضها، وعراقة أزقتها، و تصاعد أصوات الباعة المتجولين فيها،وبساطة تدفق الحب بين كفيها وحيا إلهيا وسموا في رحيق قصيدة.
يتجسد الوطن في القصيدة ندا قويا أمام الآخر في محاولة لإثبات الوجود وتأكيد الأنا شامخة عالية، أنا الوطن وليست أنا الذات:

 أينَ ألقاكِ؟!
والطريقُ مليءُ ...
بالضحايا
ولا نبيََ يجيءُ
.
كلّهم يا حبيبتي
حين مرّوا
حملوني ذنوبَهم كي يضيئوا
.
كلّ هذي الوجوه متَّهماتٌ
و القناعُ ال(علا) الوجوهَ بريءُ
.
والدم الطفل شاهدٌ
والسكاكين بغايا
والموتُ فنٌّ رديءُ
.
ويكون جسد القصيدة امتدادا للوطن العربي وصورة تعكس القومية العربية، إذ لا يستطيع الفلسطيني حبا ربما أو لأسباب أخرى أن يرى صورته بمعزل عن القومية العربية، حبا أو كرها جاءت قصائد حجاوي مسكونة بثقل الألم العربي المصري، السوري، العراقي، التونسي، اليمني، الليبي والفلسطيني بدءا، لتعكس الكلمات أجساد المثقلين موتى على أعتاب حلم لم يكتمل
لطفولةٍ نامت فغطاها الركامْ
لدمِ الحمامْ
ولمن تشرّدَ في الظلامْ
هذا فؤادي شمعةٌ ليضيء في الليلِ الخيامْ
ولوردة قتلت بلا سببِ
بلا سببِ
بلا سببٍ سوى أن الشذى حلبي
هذي ضلوعي فاحرسوا حلباً من اللهب
ِ

الإنسانية ووعي القصيدة:
في وقت مبكر دخل جعفر متاهة عولمة القصيدة، قصيدة أممية مجردة من جنسيتها، حاملة روح الكل الإنسان، هكذا حاول أن يكتب القصيدة المشحونة بالروح الإنسانية الصافية،تلك التي تتحدث بانحياز تام للألم وتتنكر بزي العالمية لتكون القالب الذي يتسع للجميع، عازفا لحنا إنسانيا رخيما متواضعا.
هذا هو الليلُ فافتحي قلقاً
عليهِ كي ترقدي وينفزعُ 
.
ماذا سيبقى لي غيرُ أغنيةٍ
وضحكةٍ في عينيكِ تندلعُ ؟!
.
أنا وصمتٌ يعتادني
ويدٌ تطرقُ
والليلُ في دمي بُقَعُ
.
لا تمسحي عن دمي خطيئَتَهُ
يكفيهِ أنّ الخطيئةَ الولعُ
.
ما زالت الأرضُ كلّما تعبت
تشربُ من دمعنا فلا تَقَعُ
.
هكذا يروي الألم والطفولة والشجر ويغني البيوت والشوارع، والعابرين وهدير البحر، وأفلاك السماء.

غجرية تبحث عن أرضها:


أصدر الكاتب ديوانه " غجرية تبحث عن أرضها" مسجلا بتلك العفوية وذلك الصدق حالة الارتباك في بحثنا الخاص عن الوطن، ذلك الذي يملكنا أكثر مما نمكله، فالغجر قبائل ومجموعات رحالة تنتمي لفكرة الانتقال أكثر مما تنتمي للمكان، أو تجده، وربما هذا التناقض يعكس ما نعايشه فلسطينيا وعربيا من حالة ضياع للموروث المادي كالأرض والمقدرات التاريخية والحضارية والثقافية، ومن ناحية أخرى يبدو في قصائد الديوان استعانة الشاعر بالصديق ( الغجرية) كشخصية شريكة في رسم ملامح القصيدة، على نهج شعراء الجاهلية في ابتداع الصاحب الذي تتوجه إليه مطالع القصائد غالبا، وفي زاوية أخرى فقد وظف الشاعر فنون الكتابة النثيرية ( الروائية والقصصية) في ديوانه، ويظهر هذا واضحا في عنوان الديوان الذي جاء طويلا سيرا على نهج عناوين الروايات والقصص، وفي استخدامه السردية السلسة وعنصري المكان والزمان في بعض القصائد، وقد استخدم الكاتب فن التدوير الذي يعتمد على كتابة القصيدة الموزونة العمودية بشكل قصيدة التفعيلة في مواكبة الحداثة والتقدم. 

تعليقات

المشاركات الشائعة