مسرحية الحصار صناعة الوعي المتداخل

مسرحية الحصار صناعة الوعي المتداخل
مسرحية الحصار واحدة من المسرحيات الهامة والملفتة التي سجلت لمرحلة من التاريخ الفلسطيني الحديث، خلال حصار كنيسة المهد في بيت لحم، وحصار الضفة الغربية، جنين، ونابلس، و رام الله  و غزة والحروب التي شنها الاحتلال العسكري عليها آن ذاك.
المشهدية في مسرحية الحصار:
أعد نص مسرحية الحصار بعد جولات ولقاءات مع مقاتلين مبعدين في غزة و دول أوروبا فجاء العرض الأول عام 2015، وعلى مسافة عامين عرضت مسرحية الحصار في عام 2016 و 2017 ضمن سلسة من العروض، وفي كل مرة كانت المشهدية في العرض المسرحي تتغير وتتنوع، وتظهر بجديد يتجدد مع اختلاف الواقع الفلسطيني السياسي، والتغيرات المحيطة، ربما لا تتغير النصوص، وإن أسندت بعض الحوارات لشخصية أخرى من المقاتلين وكثفت، إلا أن وقع الجملة يختلف في وعي المتلقي مع اختلاف الواقع السياسي الحالي ، إضافة إلى اختلاف بعض الممثلين الذين أدوا بعض الأدوار و أثر تقنياتهم الخاصة وتوقيعهم الخاص في الشخصيات. وهذه ساهمت هذه العوامل كلها في رفد وتعزيز بعض المشاهد والإضاءة عليها بشكل أكبر من العروض السابقة.

·        الدخول إلى بيت الله:
لقد كان مشهد الدخول إلى الكنيسة احتماء من دبابات وقوات الاحتلال صاخبا من خلال مؤثرات الصوت، وارتدادات الإضاءة وصخب المكان الضيق( خشبة المسرح)، و أمام هذا الصخب في المؤثرات والفيديو والموسيقى، جاءت الحدة التي بدت في ملامح و أصوات الممثلين (المقاتلين) متواضعا في مقابل حدة الصوت والصورة_ على الأقل خلال هذا العرض- قياسيا بالعروض السابقة.
·        خروج المقاتلين ليلا والخيانة:
كانت ساعة خروج ثلاثة من المقاتلين المحاصرين ليلا حالة موجعة،أثرت في نسيج مجموعة المقاتلين المحاصرين، ثلاثة خرجوا خلال الليل وتجاوزا الحراسة المفروضة من المقاتلين أنفسهم، وهو مشهد زرع الشك في قلوب ونفوس المقاتلين تجاه الحارس،لقد كان المشهد مختلفا هذه المرة، فقد أوحى الممثل بحالة من الخوف والارتباك والتردد من القيادة الداخلية،وحاول الاحتماء بأحد زملائه الذي انبرى محاولا دفع البقية إلى الهدوء ومنح زميله الفرصة للحديث، فبدا الأمر وكأنه اشتباك مع القيادة الداخلية – كما يحدث حاليا من سجالات داخلية داخل الفصيل الواحد- ولم يعد لي ما أعاده المشهد ذاته في الأعوام السابقة حين رأيت في المشهد حالة تعرض تآكل الثورات وكيف تبدأ الثورات بأكل ذاتها من خلال البحث في الخيانات وتصفية الأشخاص والتحقيق معهم- كما حدث مع نهاية الانتفاضة الشعبية المجيدة 1987، فالشخصية هذه المرة بدت مرتبكة قلقة وليست منفعلة صاخبة تدافع عن ذاتها.

الأمهات أصوات مقاتلة:
استخدم الاحتلال الصوت النسائي كأحد أدوات الضغط على المقاتلين، مستفيدا من الثقافة المحلية والشعبية للفلسطيني،وعرضت المسرحين لصوتين نسائيين، واحد عبر الهاتف، واخر عبر مكبرات الصوت مدفوعة من قوات الاحتلال لتثني ابنها عن متابعة تحصنه إقناعه والرفاق بتسليم نفسه،لكنها دعته للصمود والثبات، على أن صوتها لم يكن عاليا حادا ربما ليعكس حالة التناقض التي تعيشها، وفي المقابل يأتي صوت السيدة عبر الهاتف في نهاية المسرحية: يا خوي انتو  حاسسين وباللي بيصير حواليكم  ولا لأ
الناس بطلت قادرة تتحمل
انتو فاهمين انو آلاف الناس محاصرين
ابني بيموت مش قادرة أوصله على المستشفى
خطيتو برقبتكو
لقد جاء المشهد سريعا باتجاه بناء نهاية للمسرحية، وإيجاد تبرير انساني لحالة التسوية التي تقبلها المقاتلون على مضض فهم رفضوا التوقيع، ثم جاء في حوار بعضهم: اكتب انت اسمي
وقع عني
أنا عارف شو رقم هويتي   
اكتب ...................

ولكن هذا المشهد على قسوته، وما عرضه من تزعزع الدعم الشعبي بعد الإنهاك، لكنه أسس لحوار بين المقاتلين عن أفق الحلول الممكنة لهذا الموقف الذي يعيشون فيه. لقد عقد المشهد موازنة بين صوت الثورة والثوار وعدم القدرة على التنازل، وصوت الناس واحتياجهم لمساحات السكينة بعد كل هذا الحصار والإرهاق، فجاء صوت الأب حاملا للمقاتلين ما توصل إليه السياسيون من تسويات.
( أعتقد أن هذا المشهد كان يمكن استثماره ليعرض هذا الاشتباك الحاد والدائم حتى اليوم بين الثورة والعاملين عليها، وبين صوت السلم والمهادنات والتسويات والتفاوض، والحلول المرحلية وغيرها، مثلا ما قدمته الشخوص من تعريف عن مرجعياتها في ختام المسرحية كان يمكن أن يوظف لدعم هذا المشهد)
الشخصيات واختلاف آليات نحت كل منها:
·        من النهج  المصري إلى السوري :
 حين تخرج من أي عرض مسرحي، أي فيلم، تخرج معك واحدة من الشخصيات تحملها في الذاكرة، وتبقى المسرحية موسومة بهذا الشخص، كان هذا إيقاع المسرحية، وربما انطباعي الخاص عنها في عروضها الأولى، حيث ركزت على شخصية المقاتل المصاب( فيصل أبو الهيجا)الذي يرفض الخروج وتسليم نفسه، وتلقي العلاج، ويقود دفة السفينة، ويسلم الراية لرفيقه أحيانا حين يأكله التعب، لا زالت شخصية فيصل ذاتها، بذات القوة والصخب، إلا أن التصرف الإخراجي هذه المرة اختار نهجا آخر حيث وزع ثقل الزمن المسرحي بين شخصيات العمل، فلا تكاد عينك تمل متابعة العرض ولا تغفل أن أي شخصية منها.وقد ساعدت تأثيرات الإضاءة الفنية في تحقيق التوزيع في الثقل، حيث انتقل العرض من النهج الدرامي المصري( الشخصية الأوحد) إلى النهج السوري في البطولة الموزعة بين الشخصيات على اختلاف أهميتها، بما يعكس انسجام لغة العرض مع الزمن السياسي الحالي ونهايات التجاذبات السياسية وما وصلت إليه.

·        الشخصية المسيحية وبناء الوعي:
اختلفت الشخصية التي أدت الدور المسيحي في العروض التي قدمت لمسرحية الحصار، وأجد أن هذه المرة كانت الأكثر نجاحا، فالروح، الشكل، الملامح، كانت الوسيلة لإيصال الهوية الدينية وكذلك شكل الحديث، ولم تحمل الشخصية في عنقها صليبا كما في العروض السابقة، حيث أن الانتماء كان واضحا في الشكل و نكهة الكلام، إضافة إلى مزاح بعض الأصدقاء وهذه المرة ظهرت الكوفية مع هذه الشخصية يلفها حول عنقه، ويلف فيها زميله المقاتل المسلم حين يسقط شهيدا، وكان حضور الكوفية كواحدة من الشخصيات المساندة في العمل وكإشارة لانتماء المسيحيين الفلسطينين  لفلسطين، فالقضية قومية عربية وطينة وليست دين مقابل دين كما يروج له الاحتلال( الإسلام مقابل اليهودية).

·        معتز الشخصية النامية الديناميكية:
قدم معتز خلال العرض المسرحي شخصيتين أحداهما كانت شخصية نامية واضحة المعالم، ديناميكية تنمو خلال الزمن المسرحي، ويتجدد وعيها، وكانت قوية الحضور، في حين كان معتز في أدائه شخصية الراهب( الأب) رجل الدين غير مقنع، فرغم صغر حجم الدور ورغم جودة الأداء، إلا أنه لم يكن مقنعا بهذا الدور( إجادته دور الشاب تجعل من الصعب على المشاهد رؤيته وتقبله بدور الأب)، فالشاب كان أقرب إليه كثير المزاح، يروي ذكرياته وألعاب الصغار، واشتياقه للأكل، ويمزح مع رفاقه، يخاف، يرتبك يصحك، يبكي، يشتاق.
لكن قوة أدائه في الشخصية الدينية كان متواضعا قياسا بدور الشاب،  وقياسا بما قدم لشخصية رجل الدين في العروض السابقة، حيث قدم رجل الدين على درجة من الوهرة والرزانة، وتم التركيز على ملامح وجهه، وقدمت كشخصية سمحة حتى خلال صراخها وعتابها للمقاتلين. وكان يدخل المساحة المسرحية ولا يكتفي بالزوايا كما في هذه المرة.


يسجل لمعتز نجاحه في تقديم شخصية المقاتل النامية الشاب الصغير كثير المزاح، المشغول بالذكريات، وبألعاب الطفولة( عسكر وحرامية) ، المشتاق لصنوف الأكل، وأنواع الحلويات والشكولاتة، الشخصية المازحة الساخرة الخائفة الباكية، تتحول في نهاية العرض إلى شخصية واعية ثابتة مقاومة، تناقش ما وصلنا إليه، وما يترتب عليه، تسأل كيف ولماذا، وتسأل ماذا بعد،وتصل إلى ضرورة البقاء والتحدي والثبات.

الشخصية المقدسية:

اهتم العمل المسرحي بعكس تنوع الروافد الجغرافية للمقاتلين الذين اجتمعوا في الكنيسة، حيث قدمت اللكنات واللهجات المحلية المتنوعة، وجاءت الهوية المقدسية من خلال شخصية أحد المقاتلين واضحة في لهجته، رغم أنه لم يشر إلى ذلك خلال حديثه وحواره. 

تعليقات

المشاركات الشائعة