لندن... جنين .... وابتداع جدل حقيقي


لندن... جنين .... وابتداع جدل حقيقي

                                                                                          
المسافة بين لندن و جنين مساحة واسعة، كبيرة تتعدى مساحة قارتين، جنين المدينة الصغيرة الشاحبة بكل تفاصيلها المرهقة، والعبث الخدماتي، الطرقات المتشققة كما لو أنها وجه عجوز مجعد، الأرصفة المكتظة بعربات الباعة غير المتجولين، لا شوارع مضاءة في جنين، وستجد بين كل عمودي إضاءة عموداً بنور مكسور،المسافة بين لندن و جنين مسافة عاصمة ضباب كبرى، ومدينة صغيرة متكورة على ذاتها ساكنة بهدوء شاحب في شمال الضفة الغربية المحتلة، وبكل هذا الجدل وتلك الحرفية تجمعهما مساحة خمسين دقيقة مسرحية، وبضع كراسٍ بلون برتقالي،و شابان يقفان على أعتاب حلم الهجرة والاغتراب و تحقيق نجاحات كبرى هناك.  

لندن .... جنين :
عرض مسرحي يعرف نفسه  كعرض كوميديا بيضاء تستند إلى نكهة الشارع، والأحاديث الشعبية اليومية العادية التي نصادفها كل يوم في سيرنا، بحماس كبير و دافعية عالية أخبرني الفنان علاء شحادة عن تحضيراته الجادة واستعداده لعرض مختلف و حقيقي، وبفخر جذاب أبدى سعادته بهذا المولود الجديد" لندن ... جنين"، المولود الذي أسند نفسه بنفسه، ورعى ذاته بذاته، وجاء بعد جلسات كتابة مشتركة مع كاتبة النص و الممثلين، تروي المساحة المسرحية قصة ممثلين من مسرح الحرية " هما علاء وفيصل " يذهبان لأداء سلسلة عروض مسرحية في بريطانيا، ويقرران محاولة الحصول على فرصة اللجوء الإنساني، والبقاء هناك، وتحدد المسرحية مكتب الهجرة والجوازات مكاناً مسرحياً للأحداث.
مسرح الحرية و استدعاء الواقع :
ليس ادعائي الخاص، كما أنها ليست فراسة مني، إلا أنها محاولات حقيقية باتت واضحة يخطوها مسرح الحرية ساعياً نحو كسر عزلته و بناء نص محلي يشبه تلك الارتدادات والأحاديث التي يتجاذبها المارة عبثاً في الشارع، لكسر الهوة بين مساحة المسرح و بين الشارع المقابل له، والأزقة المجاورة، و شباك الجيران المطل على أروقة المسرح، نص محلي يشبه وقع الشارع يرويه، ويظل ذلك النص القوي في الوقت ذاته، النص الذي يخرجك من المكان محملاً بالكثير من الأسئلة، وبكوميديا ساخرة تشبه كوميديا الحكيم المسرحية " توفيق الحكيم"، هكذا رأينا على الخشبة استدعاء علاء و فيصل لذاكرة الشارع من المخيم إلى البلد " جنين"، بوابة المستشفى الحكومي، بائعو القهوة،سائقو التكسي، بوابة المنزل، السطح، و أحاديث الأمهات البسيطة  الساذجة أحياناً المملوءة حباً وخوفاً.
استهلال هادئ و عرض شائق بالكثير :
بدأ العرض بشكل ساكن، تلك البداية التي لم تسرقني، حيث بدأ فيصل يتحدث مستنداً إلى ظهر كرسي في الصف الأخير من الديكور المسرحي،وفي أحيانٍ أخرى يعقد كفيه واحداً فوق الآخر، تابعت مساحة النص وقلت أن الأمر يشبه تلك النصوص الروائية التي لا تكشف ذاتها في اللحظات الأولى، والشخصيات التي تحتاج الكثير من الوقت حتى تبدو لك بكامل جمالها، وقد كان هذا حقيقة، إذ بدأ النص يتراوح بين موجات ارتفاع وهبوط عبر خمسين دقيقة تقاسمها شخصان، أديا أكثر من دور في المكان ذاته، وتنقلا بينها بتلك السلاسة الموحية بتغير الوقت والزمن والمكان، وبحرفية كبيرة، وتقنية فنية عالية، دون الاحتياج إلى استعمال تقنيات ابتدائية " غير احترافية" كعرض (LCD) مرافق للإيحاء بالمكان واختلافه، هكذا أدى علاء وفيصل أدوار الظل " الأم، بائع القهوة، السائق غير المرخص ، الجار،موظفة الجوازات البريطانية "، وقد تزاحمت مواضيع عديدة خلال خمسين دقيقة، أحب أن أستدعيها تباعاً قبل أن أمر فوقها بشكل دقيق : حجج طلب اللجوء، المسرح، حلم الهجرة،الخروج من عنق الزجاجة، الاحتلال، نظرة الآخر " الغربي " حسب المسرحية لدول العالم الثالث، طريقة استعمال الفنون و دورها داخلياً و خارجياً( الفرق بين صورة المسرح الفلسطيني في فلسطين و خارجها)، صلاحية الفن الفلسطيني خارجياً مرتبطة بالتغير السياسي خارجياً،الحنين إلى البلاد، تفاصيلها العابثة.
مقص الرقابة الاجتماعية والقفز فوق الشجر :
عرضت المسرحية موضوعات نقدية حقيقية جادة و موحية بالكثير من التساؤلات،بجرأة خجولة، و أدرك و أنا أكتب هذا المصطلح" جرأة خجولة" أني أجمع متناقضين بشكل غريب، لكن هذا ما قدمته المساحة المسرحية، حيث تحدثت عن "المثلية الجنسية" كسبب يدعيه المهاجرون غير الشرعيين للحصول على اللجوء في انتظار الإقامة وربما الجنسية، وقد قدمه العرض كأحد أكثر الأسباب ضماناً و نجاحاً في الوصول لهذا الهدف،لكن سرعان ما يحول النص إلى كوميديا سريعة للخروج من أزمة مقص الرقابة الاجتماعية، إذ يضحك الحضور للسخرية الموجعة تلك، ويكون ضحكهم ذلك الوقت الكافي للانتقال السريع إلى بوابة موضوع آخر، سريعاً وعلى عجل و دون أن تحس أن الأمر تغير و أن موضوعاً غاب دون أن ينضج، ولا يختلف الأمر حيث قال فيصل :" ولا بدك إيانا نقولهم أنو المسرح حرام " " مش رح يصدقوا إنو المسرح حرام" حيث قيلت هذه الجملة و كأنها تقدم خصيصاً للجمهور وليس لصديقه علاء، ليستقبلها الجمهور  بضحك ساخر ذلك الضحك هو الآخر بوابة سريعة للانتقال لموضوع آخر، إذ لا يخطط النص لبناء علاقة شائكة مع جمهور البلد التي تحمل عنوان النص، فلم يقدم أياً من الممثلين تجربته حول فكرة " المسرح حرام" كجزء من هوية جنين و تفكيرها.
واثقون أن لا صدى يسمع :
على مقاعد الانتظار في دائرة الهجرة والجوازات فكر الممثلين وخلال انتظارهما بذلك التعريف الذي يقدمانه لنفسها،وكيف يجيبان عن الأسئلة الممكنة خلال اللقاء، حيث تحدثا عن فلسطين التي تعاني من الاحتلال، وفي إجابتهم عن متى احتلت فلسطين، وبين العام 1948 و 1967 وعمر احتلال عاشته فلسطين، كان النقد السياسي الساخر واضحاً هذه المرة، لا يخفي نفسه، ولا يختفي خلف ضحكة يصنعها الجمهور، حيث كرر السؤال لمرات عديدة، كررت عبارة : " خلينا نكون دبلوماسيين مثل أبو مازن" و اكتملت الأسئلة والإجابات هذه المرة:" فلسطين متى احتلت ؟، ليش أبو مازن متى انولد؟ والحديث عن أبو مازن يحمل تفسيرين فهو أولاً رئيس دولة فلسطين بما حققه من اعترافات سياسياً، و ضمن حملات تأييد ممنهجة محلياً، وهو القائد السياسي لمراحل المفاوضات التي أفضت إلى تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، وعودة القياديين 1994، وهو ثانياً ابن مدينة صفد اللاجئ، وصفد تلك المدينة التي أفرغت بشكل تام تقريباً من سكانها الفلسطينيين، وصارت مكاناً بأغلبية يهودية.
و سألت نفسي كثيراً هل فلسطين حقاً ذلك المكان الديمقراطي الذي يمكننا فيه انتقاد الحال السياسي دون أن نخاف فيه مقص الرقابة الحكومية، وهل نصوص الكتاب والمبدعين على هذا القدر من التنفس والحرية، أم أننا نثق كمسرحيين و فنانين و كتاب و مبدعين أن الزمن تغير تماماً و أن الكلام لا يكاد يترك صدى يتعدى بضع أشخاص يتجاذبون الحديث بحدة و انفعال وجدل في مساء عابر، أو أن المستوى السياسي واثق أن تأثير هذه العروض والأحاديث والنصوص لا يتعدى بضع رواد قلائل، ليس لأيٍ منهم تلك القوة على إحداث تغيير بعيداً عن رأس أنفه.
جنين  حضور دافئ جميل :
في لندن وعلى مقاعد الانتظار في غرفة في مكتب الهجرة والجوازات، كانت جنين المدينة الحاضرة التي رسمتها الكلمات والذكريات البسيطة، الشارع بحفرة بتعرجاته، بوابة المستشفى الحكومي في جنين أول مساحة تجدها بعد الخروج من عتبة المخيم، أسطح المنازل، أحاديث الأمهات، دعاؤهن، صوت البائعين، صوت الرصاص والاجتياح، الحنين إلى التفاصيل العابثة التي نشتاق لها بعفويتها، وقد كان النص عفوياً عاطفياً هادئاً جميلاً ذاتياً في هذه الزاوية، جميلاً و يأخذك في رحلة حالمة، لتدرك و أنت تجلس على مقاعد الحضور أنك أيضاً تتمسك بأشياء بسيطة ربما لو وزنتها بموازين المنطق والاستحقاق لا تجد لها قيمة ترجى، تجد أنك تحب شخصاً عادياً وربما يوجعك أكثر مما يرسم في قلبك بسمة لكنك تحبه، وتعمل في عمل لا يرضي طموحك، لكنك تختار الاستمرار فيه بجد، وتعيش في بلد لا يقدم لك المستوى الأدنى من الخدمات، لكنك تحب هواءه و عوادم السيارات، و أزمة منتصف الظهيرة، والطواف بين شبابيك الدوائر الحكومية لأسابيع للحصول على موافقة على معاملة اعتيادية، هكذا تدرك أنه الحب حالة لا تعرف منطقاً، فكثيراً ما تستلذ النفس في الوقوع في تلك الدائرة، و إلا كيف يكون حباً إذن إذا سار وفقاً لمعادلات المنطقة الموزونة والمحسوبة .
جنين الاحتلال والاستيطان :
استحضر علاء و فيصل جنين المكان المحتل الذي عانى كثيراً في الاجتياح 2002، والاقتحامات، والاستيطان، حيث ذكرا اسم مستوطنة " كديم" ، وقد جاء الحديث عنها في مقاربة الحديث عن السفر إلى ألمانيا،  حيث يقول فيصل متحدثاً عن الفرق بين صورة البهرجة التي يتصورها الشخص المهاجر قبل وصوله وما يجده بعد وصوله هناك:" يييي هاي في عنا منها بجنين .... هاي بتشبه مستوطنة كديم عنا بجنين"، وأفكر مرتين في هذا، نعم هذا حقيقي إذ حمل الاحتلال الإسرائيلي على عاتقه جمع يهود أوروبا و محاولة استرضائهم بخلق أماكن و بيوت منفصلة عن الوجود الفلسطيني وهوية المكان، أماكن وبيوت تشبه أوروبا، ومناخ يحاول ذلك ولا ينجح دائماً.
الأمثال.. إثبات الهوية و هوية النص:
الأمثال واحدة من أدوات التعبير الواضح عن الهوية الاجتماعية الشعبية الفلسطينية ، وهي لا تقل أهمية عن الزي الفلسطيني الذي حظي في السنوات الأربعة الأخيرة بتظاهرة كبيرة و اهتمام رسمي وشعبي حافل، وأعددت له اللجان و تفرغت له المؤسسات، احتفت المسرحية بالمثل الفلسطيني، إذ كثيراً ما تلهج به ألسنة النساء "خزائن التراث الكبرى"، وقد قدمت الأمثال الأولى بشكل جاء منطقياً ومناسباً للحوار في النص المسرحي، إلا أن التراتب واستذكار الأمثال بما يشبه المناظرة، أو تلك اللعبة التي يبدأ أحدهم فيها بأغنية أو قصيدة ما، ويبدأ التالي بأغنية تبدأ بحرف الروي الأخير من ذلك البيت وهكذا، جميل أن نستحضر تراثنا كهوية بشكل يخدم تقدم النص المسرحي .
أما عن لندن :
فأما لندن فاستحضرها النص من زاوية التوجه الرأسمالي " عرض ماركة تجارية لحذاء" وهو ماركة سائدة و رائجة بين الإنجليز،حيث يصر علاء: " مش رح ألبس بوت ...... إلا لما أخذ الجواز"، وأما الطريقة الثانية التي قدم فيها علاء لندن فكانت الشاي الإنجليزي كتقليد يعبر عن البلد، ويحمل بعداً سياسياً" ضريبة الشاي التي فرضتها حكومة بريطانيا و انتهت باستقلال المستعمرات البريطانية، فالشاي يقدم  بريطانيا أيضاً كبلد استعماري قديم " امبراطورية مستعمرات الاحتلال البريطاني التي لا تغيب عنها الشمس" وهذا لا أقوله فخراً إنما لأن احتلالها جاب الأرض دوراناً. أن تكون مساحة الوقت محملة بكل هذا و أكثر بصمة تستحق الوقوف بها كثيراً.



تعليقات

المشاركات الشائعة