نبض الصورة ......... وصوت المكان

نبض الصورة ......... وصوت المكان 

دارة الفنون : 

تصنع الفنون تلك الحلقة الرقيقة الهشة حول ذاتها، وتبني لنفسها فقاعة صغيرة رقيقة، لتسنح لنفسها بالتحليق عالياُ، هكذا تلقي بنظرها على مساحات بامتداد الأفق، وتسمع صهيل الأرواح، نداءاتها الكامنة، ذلك الوجع الدقيق الذي لا تدركه أعين العابرين على عجل، وفي ضوضاء الأماكن، التزامات الوقت، صوت عقارب الساعة تسير سريعة محتدة أحياناً، و زاحفة كما لو أنها عظاءة هرمة، وتصوغ الفنون ذاتها، وتعيد تشكيل أدواتها لتتأقلم دائما مع روح إنسان بذهن شاردة و روح منكسرة في كثير من الوقت.


مسرحيات العرض الواحد :


إن لوقع ما يحدث على خشبة المسرح، صوت صاخب وقوي لا ينسى، قد تحمل معك أصداء حناجر الممثلين و أنت تنسحب خارجاً من بهو المكان، إلى اتساع الأرض، و يؤرخ التاريخ الانساني القاسي بجبروته لمسرحيات العرض الواحد، حيث لا مجال لأي إعادة أو تعديل، وما من فرصة لتحسين الأداء مرة أخرى، هكذا كانت خشبات المسارح أيضاً، وبهو المراكز الثقافية مساحات موت مفجع لا ينسى، يؤرخ لنفسه،عرضاً منفرداً و امضغ بعده أي رأي بين شفتيك، فمساحة دورك ابتلاع القهر، ومضغ الصدمة على مهل حتى لا تعلق في حنجرتك، ولك أن تصخب وتصرخ، و تقول الكثير، فلا أحد يكترث لصوتك. 
لم تكن إلا 166يوما قضاها بوضياف في الحكم حتى كان التاسع والعشرين من حزيران في العام 1992، حيث اغتيل أثناء إلقائه خطابا خلال اجتماع في المركز الثقافي في مدينة عنابة في الجزائر،وفي  ذاكرة جنين الغضة في العام 2011 وعلى عتبة مسرحها الصغير،وفي وقت ساكن تماماً حيث لا جمهور، لا إضاءة، ولا صخباً مدوياً يوقف سير الموت شبحاً بشعاً يؤدي دوره دون اعتلاء المنصات، ويلف بوشاحه المخرج والفنان جوليانو خميس ليوقف سيلاً كبيراً من الإبداع، ورحلة كانت قد بدأت تتبرعم،و بدأ زهرها يتفتح قليلاً على خجل. وفلسطين مساحة مسرح واسعة، وفي كل زاوية روح ما تؤدي دوراً في مسرحيات العرض الواحد، تستهدف قوات الاحتلال زياد أبو عين (رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في كانون الثاني بينما كان يؤدي دوره خلال فعالية سلمية لغرس أشجار الزيتون في قرية ترمسعيا في رام الله في العام 2014، يتدحرج الموت من على تلك الربوة الصغيرة، ويتساقط مع حبات زيتون لم تنضج بعد، وعلى مسافة من الوقت في العام 2016 يقتل السفير الروسي خلال افتتاح معرض فني في أنقرة .


المسرح و التصدي للموت :


يشبهنا الموت كثيراً، يلبس لوناً أبيض بهياً مزركشاً بالأمنيات، فهو يمضي إلى عالم آخر لا ندريه، لم نزه من قبل،لا نعرفه كثيراً، لا يشبه الفكرة تماماً، وما من آلات تصوير مجدية تستطيع إلتقاط روح الموت، إلا أنها تتسلى بافتراس حزننا لا أكثر، تلك المساحات التي ترسم وعياً كبيراً بحجم الألم و التجربة،وقد جابت أروقة المكان تفاصيل عديدة، وقفزت بحرقة فوق الكثير من الحواجز والآلام،روتعالت على قهر تمضغه، وحرقة تعيشها، هكذا نجد أن روح النص المسرحي الذي تدرج المسرح في تقديمه تماهى مع التجارب المسرحية الكلاسيكية عربياً، فالمتأمل في التجربة المسرحية العربية يجد أنها استندت في البداية إلى الكلاسيكسات العالمية( في مرحلة البدء في العرض على الخشبات ودور السنيما) وهي مرحلة لاحقة للمسرح التقليدي (الجورب)أو القفاز، ومسرح الدمى والعرائس،فالنص العالمي واحد من البوابات الأولى استند إليها ففي العام 2009 بدأ العمل على إعداد نص مسرحية مزرعة الحيوانات، مستنداً إلى النص الأم لجورج أورويل ومحاولاً التقارب مع الحالة المحلية في فلسطين،ثم تأتي مسرحية شظايا فلسطين  لتكمل المشهدية من خلال مسرحية صامتة،هذا الصمت الموجع الذي يجعلك تخرج محملاً بالأسئلة.
ولم تكن أليس الجميلة التي تتجول في بلاد العجائب بعيدة عن خشبة مسرح الحرية، ففي العام 2011 جاءت مسرحية أليس في جنين عملاً مسرحياً ضخماً مستنداً إلى نص عالمي، ومرتداً إلى روح حياة فلسطينية محلية، هكذا نرى صورة العائلة التقليدية، وصورة الحلم والشغب والمغامرة في روح الأطفال، وقيود الساعات،وعقارب الوقت،والكثير من الإرتباك في عالم محموم بالكثير . 

رمزية مباشرة و نص صادم: 

بهذه الروح عاد النص المسرحي في العام 2013 ليقدم مسرحية رسالة انتحار، فالأرض والتاريخ والسياسة وتحتل دولة أمل( شخصية المسرحية الرئيسية)،التي مثلت واقع القضية الفلسطينية بما يحيطها من تدخل دولي وعربي ، وصلت الشخصية إلى حالة من اليأس والإحباط والخذلان، ترجمتها من خلال رغية متهورة وجامحة بالانتحار" وبدت في مرحلة أخرى شخصية مازوخية تتلذذ بإيذاء نفسها ، كما بدت في حين آخر شخصية مشتتة لا تعرف تماما ما تريد، إذ انتقلت للحديث عن رغبتها بالتخلص من القيد الاجتماعي والثقافي والنفسي.
إحياء الصورة النضالية : 
وتابعت النهج المسرحي بتلك الرمزية المباشرة الواعية مقدماً عرضاً انسانياً توثيقياً من خلال مسرحية ( الحصار) في العام 2015،مسرحية الحصار تميزت بعرض الهوية الوطنية في الإبعاد بعد حصار كنيسة المهد في بيت لحم، إذ يبدأ جس نبض الألم من روح الإبعاد، وإثر مضي ثلاثة عشر عاما على الإبعاد، يجلس بعض المناضلين الفلسطينيين على كراسيهم برتابة مستعدين للإجابة على تدفق الأسئلة من صحفي لا زال يذكر قصتهم بين كل القصص والحكايات النضالية الصعبة، والعديد من الأعمار التي تذوب في الإبعاد. 
و بكلمات محمود درويش في أحمد الزعتر وألحان وغناء مارسيل خليفة، وبانحناءات رسمت صورة خارطة فلسطين، تستمر المنصة المسرحية بإحياء روح النضال الحقيقي من خلال مسرحية صور من حياة غسان كنفاني في العام 2016، مستنداً إلى النص الإبداعي للكاتب كنفاني، بكل ما يمثله بشكل شخصي من امتداد لنضال و كفاح فكري، وسياسي، عبر عنه بوسائل كثيرة، وجاء ذلك من خلال مشاهد من روايات وأعمال وثورية حياة الشهيد غسان كنفاني.

فلسطين نبض الحنين:
 حملت مسرحية مروح على فلسطين  2016، بين طياتها حكايات تروي جزءا من  فلسطين ، ذلك الجزء الخافت الذي لا تلتفت إليه الروايات التاريخية والسردية، فلسطين أخرى يفتش عنها النص في حركات الممثلين، وأصواتهم، وسردهم القلق لحكاياتهم، و أفكارهم، ويرسمها روحا تمشي معهم في سيرهم القلق، فهناك فلسطين التي يتحدثون عنها، و أخرى يجدونها على الأرض، ضمن تلك المفارقة التي أوجدها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية المحتلة ، كل فردوس البلاد المفقود.وذلك من خلال تتبع مسار الشاب المغترب المروح على فلسطين، والمتجول شوقاً و شغفاً في كل جزء فيها،هذه البساطة التي يقدمها النص بحيوية وشغف، وكثير من الحنين.
أنا من هنا،وهنا أنا , دوّى أبي ,أنا من هنا،وأنا هنا , وأنا أنا، ليس بعيداً عن كل هذا الحنين، كل هذا الشغف، يأتي العرض المسرحي ( وهنا انا)،ففي العام 2017 رسم المسرح مساحة واسعة لواقع يومي كبير ومتقلب، مثبتاً أن حكاياتنا الفردية الصغيرة شغب مونودرامي شائك صعب،وكل نهار، وكل شمس و كل ليل، وبمساحة البساطة تلك جاءت التقلبات المسرحية روحاً تنبض بالأنا القلقة المعذبة بألم التجربة، الشبقة بحلم الارتقاء لمساحات الأمل، وفضاءات حرة.

القصص العالمية وكأنها البداية ثانية: 
في العام 2018 جاءت مسرحية جنان أم جرابات طوال النسخة الفلسطينية لرواية الكاتبة السويدية استريد ليندغرين. تعكس ليندغرين جزءاً يسيراً من طفولتها في أعمالها، وتعكس جنان على المسرح روحاً طفلة حالمة، متسائلة، تفكر، تصرخ، تلعب، بذلك الشغب الذي يكمن في كل واحد منا، مقدماً سيلاً من الأسئلة المفتوحة، حول الحدود التي يرسمها العالم للصغار.
هنا وبالقرب: 
مروراً بالعام 2016 - 2017 تشتعل تلك الروح التربوية في جسد النص المسرحي، ضمن سلسلة من الورشات، والمخيمات الصيفية، والتواصل الحثيث مع نبض وصورة المجتمع، لتنضج في أرجاء المكان نماذج لأعمال غضة سلسة، بذلك الهدوء، وتلك العفوية المفرطة، والسلاسة القريبة من الذات، هكذا تأتي مسرحية( خولة)  إحياءً ليوم المرأة العالمي محاكاة واقع الكثير من  النساء الفلسطينيات، حيث كان الإيحاء بالحقائق صيغة الإبداع المبتكرة في النص المسرحي الذي لم يعتمد كثيرا على الحوار، بالقدر الذي اعتمد فيه على صياغة المشهد، والصورة، والتعبير بملامح المشهد. وكذلك جاءت تجربة مسرحية امتحان رياضيات لترصد ذلك القلق الذي يحياه الصغار في محاولتهم كسب حربهم الصغيرة أمام فيلق الأرقام والحسابات، ونموذج الجشع الصغير على الورق.  

أقلب كثيراً من الورق، إذ لا زلت قادرة على التمتع بشقاوة تقليب صفحات الذاكرة، وأرصد في كل ما مررت به من سلسبة واسعة من النصوص، والأعمال محاولات حقيقية باتت واضحة يخطوها المسرح ساعياً نحو كسر عزلته ،و بناء نص محلي يشبه تلك الارتدادات، والأحاديث التي يتجاذبها المارة عبثاً في الشارع، لكسر الهوة بين مساحة المسرح و بين الشارع المقابل له، والأزقة المجاورة، و شباك الجيران المطل على أروقة المسرح،  وابتداع نص محلي يشبه وقع الشارع يرويه، ويظل في ذات الوقت  ذلك النص القوي الذي يشعل وعيك، ويقرع الجرس أمام مسامعك، النص الذي يخرجك من المكان محملاً بالكثير من الأسئلة.

تعليقات

المشاركات الشائعة