حجارة وبرتقال ثرثرة الوجود




 حجارة وبرتقال  ثرثرة الوجود :

لا تبدو التفاصيل مختلفة مغايرة، هي ذاتها البلاد، وهو ذاته وجع الفقد والإحلال، لا يغير قسوته، و إن تغيرت طقوسه بين عام وآخر، بين جغرافية و أخرى،  هكذا جاءت مسرحية " حجارة وبرتقال " محملة بعبء سنوات مديدة من كفاح الأرض الفلسطينية ضد عمليات الإحلال، والسيطرة، والتغييب، والإزالة، والطمس، تعبر بكثير من الصمت، وعميق من التعبير عن مسيرة ألم طويلة من الكفاح والنضال لإثبات الحق في الوجود و ترسيخ الهوية الذاتية للبقاء .

يستخدم عشتار مسرح المضطهدين نموذجاً وهوية خاصة به......، و يوظف في مسرحية " حجارة و برتقال" تقنيات مسرح الجسد، والمسرح الصامت في محاولة واضحة إلى عولمة الألم، وترجمته بلغات متنوعة، وجعل كل مشاهد يبصر في خشبة المسرح، و مساحة العرض الزمانية الوجه الخاص الذاتي له، والوجع الفردي لكل منا، وربما تكون هذه هي الطريقة الأنجع التي توصل لكل شخص وجع فقد البلاد، وسرقة الموروثات الشخصية، و ابتزاز الروح الكامنة في نفس كل منا . 


مسرحية حجارة و برتقال إخراج: موجيسولا أديبايو وتمثيل: إيمان عون وإدوارد معلّم، تقدم  المسرحية نفسها خلال الإعداد لعروضها  وخلال البروشورات التعريفية المختلفة بأنها ( تقدم قصة  سيدة فلسطينية تعيش في منزلها بسلام أبان الحرب العالمية الأولى في فلسطين ،إلى أن يصل أحد المهاجرين من اوروبا متعبا لا يملك الا حقيبة سفر،يحل عليها ضيفا ،ثم يتعامل مع منزلها على أنه بيته الخاص ويحاول طردها منه ،ثم ينشب بينهما صراع على المكان والسلطة.)، والحقبة الزمنية تواجهنا و تواحه وعينا بعبارات مثل المهاجر، وصل ضيفاً،  و أزمة الوجود. 

حجارة و برتقال ..... و وحي العنوان :

حجارة و برتقال ثنائية تقدم شكلاً صريحاً مباشراً لواقع النضال الفلسطيني المرتبط بالأرض، حيث تمثل امتداد جذور الانسان الفلسطيني الكنعاني عميقاً من خلال بصمته الحضارية الموشومة برائحة البرتقال وعطره، ونكهته، برتقال يافاوي بشقور سميكة صلبة، تكتنز داخلها رائحة ندية قوية،ولا بذور توقف سيل البرتقال بين شفتيك، وفي الحجارة بصمة فلسطينية فقد كانت الحجارة أداة النضال الأقوى والأكثر حقاً في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الشعبية 1987، وحي العنوان هذا خلق بذاته جدلية واضحة حول الحق في الوجود، في البقاء وإثبات الهوية، وسيراً على هذه الخطى فقد جاء الإطار المكاني مسرحياً مغيباً، فلا دلالات توضح مكان هذا المنزل الذي تسكن فيه سيدة  فلسطينية، كما أن ملامح الزي الذي ارتدته كانت ملامح عامة،فهو ثوب منزلي تقليدي قصير، أبيض على ياقته بعض التطريز والكروشيه،و ترتدي معه بنطالاً، ويمكن لأي سيدة أن ترتديه هذه الأيام، وهو بذلك لا يقدم دلالة واضحة للمدينة، وقد كان لهذا أثر طيب في اتساع مدى الموضوع المسرحي و هو العلاقة بين الإنسان و مداه الجغرافي الصغير " المنزل "كدلالة على المدى الأوسع الوطن. 

الصمت و ثرثرة الأشياء:
أمام حالة تغييب اللغة لإيجاد مساحة صامتة، تتخللها بعض المقطوعات الموسيقية، التي تسجل للحظات، و ترتفع و تنخفض، تتأجج و ترتخي أوصالها باختلاف شدة اللحظة، وعمق حالة التأزم، نجد في الصمت حالة صاخبة تشيع في المساحة المسرحية، السيدة تجلس في منزلها، سورها بعض حجارة و برتقال، تختلف بالتناوب حجارة ثم برتقال، و هكذا حتى تنتهي الحلقة الدائرة، ولك أن تراها سوراً، منزلاً، مدينة، وطناً، فكل الاحتمالات مشرعة، فمسرح الصمت يمنحك تلك المساحة لتأخذ المشهد إلى المساحة التي تريد، بدت حقيبة المهاجر اليهودي القادم إلى منزل السيدة كافية لعكس الفترة الزمانية التي يذهب إليها النص، وهو ما تقدمه صورة السيدة في البدء، فالحقيبة تقليدية قديمة، إضافة إلى ما تقدمه صفحات التعريف بالعمل، يحدد الزمن المسرحي في أعقاب الحرب العالمية الأولى،فبدت الهجرة اليهودية حالة إستثنائية، مقهور مقابل مقهور، وليست عملاً منظماً، مؤدلجاً،حيث بدا الشخص غير عدائي في البداية، كما لو أنه يقوم بزيارة و حسب،يجلس لبعض الوقت يفتش لنفسه عن مساحات للراحة، ثم يتطور الأمر تباعاً ويحتدم الصراع حول الوجود والمساحة الصغيرة المنزل،فقد بدأ بإخراج مقتنياته الخاصة وحسب، ولم يحاول الإعتداء على مقتنياتها، ثم بدأ شغب الحكاية يطفو، و احتدام الصراع يشتعل شغباً، صراعاً كبيراً على جغرافية واسعة انعكس من خلال صراع أصغر على مساحة منزل، مفرش نوم، طاولة، سجادة، وحتى الحجارة والبرتقال.

لم يكن الشيء وحسب ولكنها الأنا :
ربما لأنه مسرح صامت، و امام صمت اللغة لا بد لمساحة الجسد أن تتحدث، بشكل متناسق و صاخب في آن، حوار الجسد والمكان أولاً، حيث ابتدعت السيدة حواراً شيقاً مع مكانها، وبدت مزهية فيه، تتجول فيه على ضيقه، و ترتبه، و تقلب أشياءه، ثم جاء صراعها مع المهاجر اليهودي، عراكاً شاحباً قاسياً علها تمنعه من الدخول، فإذا دخل، انتقلت إلى  طور آخر من الصراع، طور لا يقارب المهادنة، و لكنه يكاد يشبه حالة التفاوض التي كانت سائدة مع الاحتلال حتى وقت قريب، قبل أن يجري تعلقها من جانب واحد،وقد تنوعت و سائلها في التفاوض، فهي تمنعه حيناً، ترفع حقيبة أو مفرشاً وضعه، وهي تقاوم بذلك محاولاته لتغيير ملامح المكان، كما تحاول منعه من فرض وجوده و اقتسامه المساحة معها، وقد وظفت في ذلك تعابير الوجه، ملامح الجسد، حركته و انثناءاته، وحتى الصراخ الذي كان صامتاً،وفي محاولة إثبات الأنا" الهوية" ارتبطت الشخصية بالحجارة و بالبرتقال أيضاً، فكان يستفزها اقتراب المهاجر منه، كذلك فقد كانت الأنا الخاصة بالمهاجر اليهودي في أعقاب الحرب العالمية الأولى " كما جاء في تقديم العمل المسرحي" متجلية من خلال الحقيبة، الكتب و الأوراق، الزي الذي عكس بشكل ما طبقة فقيرة من المجتمع اليهودي.

يظل دائماً التساؤل مشروعاً، ونظل دوماً مسكونين بفيض من الأسئلة، فهل التعرض للقهر مبرر لممارسته؟
وهل فقدان الإحساس بالأمن بوابة لسلب الأمن من آخرين،وهل للبكائيات الإنسانية والتجارب الصعبة خلال الحرب  أن تكون مبرراً للسطو على الوجود الإنساني والحضاري والفكري الفلسطيني و ممارسة أساليب قهر وقمع، و احتلال و جبروت هي أكثر إمعاناً و قوة من تلك التي كانت سائدة فترات الحروب العالمية الكبرى الأولى والثانية؟ و إذا كان القهر و العنف و القمع، ومحدودية الحركة والقتل سبباً فيما نتج لدى المقهورين من خطط لاحتلال مكان جديد" فلسطين" و التمدد فيه جبروتاً، فإن هناك ما يبرر الحق الفلسطيني في ممارسة نضاله المستمر لحماية القليل المتبقي من الأرض المحتلة عام 1976، والحلم بالوقوف على مشارف الأراضي المحتلة 1948،و حماية الأراضي المقدسة، وما تبقى من روح الحكاية.


   

تعليقات

المشاركات الشائعة