وجع المكان و رثائه في الشعر الفلسطيني:






وجع المكان و رثائه   في الشعر الفلسطيني:
البعد الوطني المكاني:
تعرضت المدن الفلسطينية لنكبة قاسية، تركت أثراً قوياً على مساحة الأرض، المساحة التي باتت تتضاءل، و تنكمش على ذاتها، وتصغر أكثر فأكثر، وسط مزيد من الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة، إذ بدأت الذات الفلسطينية تحس حالة الفقد و الهزيمة واحدة بعد أخرى، هزيمة تصفع الوجود الفلسطيني، و تغير ملامح وجوده، وتبتعد به مهجراً، بعيداً، بينما يضل المكان جوهر الصراع و كينونته، المكان الذي استوطنه الإسرائيليون، وغيروا ملامحه، أسماءه، تفاصيله، وساكنيه.
   وليس غريباً أن تتحول فلسطين من الجغرافيا المحتلة إلى الحالة الشعرية التي تفضي إلى مفهوم النضال والصبر، وحق الأرض، فالأجيال التي هجرت من فلسطين، والتي ظلت فيها أنجبت قامات شعرية عالية خرجت من رحم القضية الفلسطينية، ليضبطوا إيقاع المشهد الثقافي العربي ويرسموا ملامحه الإبداعية
إن حضور  فلسطين في أي نص يشرع الباب على ملهاة إنسانية تمتد لستة عقود من الاحتلال والقهر والتهجير، وهذا كان كافياً ليستنهض ثيمات الجمال ، في الغزل والتشبب بتلك المدن والقرى والأماكن التائهة، فردوس البلاد المفقود، فالبكاء على غياب وضياء تلك الأماكن والذكريات، كان يشبه تماماً قصائد الغزل التي تغنى بها الشعراء بمحبوباتهم، وشكوا بثهم وحزنهم، وعتابهم لغيابها.
وتستند ذاكرة الكلمات الشعرية الفلسطينية إلى ثقافة الأرض،صوتها، لونها، أنفاسها،هكذا يبكي الشاعر حقل زيتون غيبه الاحتلال، وشجرة اقتلعها من المكان، و جبلاً يعانق الشمس، إلا أنه صار بين أضراس الاحتلال، وبين فكيه،  تستند القصائد إلى ثقافة الزيتون، والزعتر، والبرتقال، والبحر، الأماكن التي غيبها الاحتلال، غير ملامحها، غير تفاصيلها، يبكي الشاعر غياب البحر و موجاته وصوته، زمجرته مداً و جزراً ، ويبكي برتقالاً وقع ولم يجد كفاً  تجمعه وتشمع عطره ،و يتذكر الزعتر:  الزعتر، الجبال، العلو والسمو، والارتفاع، البكاء حالة الغياب .
.
وتشهد التجارب الشعرية الأبرز في مشهد القصيدة الفلسطينية خلال منتصف القرن الفائت، على هذه الحالة، إذ لم يكن وعي التجارب الشعرية في المكان حاضراً ومؤطراً بتنظيرات ومناهج نقدية كما هي الحال مع شعراء الثمانينات والتسعينات، فالشعراء التفتوا إلى المكان بوعي بعد ترجمة الروائي الأردني الراحل غالب هلسا لكتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار عام 1980 .
لذلك يجد المقترب من قصائد شعراء الستينات والسبعينات أن كلاً منهم كتب عن فلسطين من بلدته التي هجر منها، فنجد الشاعر عز الدين المناصرة كتب في بواكير تجربته الشعرية مجموعته "يا عنب الخليل" عام ،1968 وتبدت فلسطين في تلك المجموعة بوصفها ذاكرة الطفولة والشباب، وخزان التجارب الأولى والوعي الأول، وظلت مختزلة في مسقط رأسه مدينة الخليل إذ يقول في القصيدة التي حملت عنوان المجموعة: "خليلي أنتَ: يا عنب الخليل الحرّ . . . لا تثمر/ وإنْ أثمرتَ، كُن سُمًّا على الأعداء، لا تثمر" .
وشكّل استحضار فلسطين بوصفها جغرافيا وذاكرة في بناء قصيدة المناصرة، كحال الكثير من أجيال الشعر الفلسطيني، تعويضاً عن المكان الذي هجر منه، وعلاقة جديدة لمفهوم الفقد في النسيج بين الشاعر ووطنه، إذ يقول في إحدى مقابلاته الصحفية: "ظلت بؤرة تحاصرني: لولا الخيال لمات المنفيون قهراً، لهذا كانت القصيدة تعويضاً" .
الحال نفسها تسري على قصائد الشاعر معين بسيسو التي يستحضر فيها فلسطين بوصفها جغرافيا، ووطناً، ففلسطين في قصيدته إضافة لكل أشكال النضال التي يعالجها شعرياً في تجربته تمثل مسقط رأسه غزة، إذ ظل القطاع المحاصر حالة يعود إليه بسيسو في الكثير من قصائده، وحتى حين كان يكتب عن القضية كان نموذج الأهالي المحاصرين في غزة يحضر كاختزال لفكرة الصمود والنضال .
يظهر هذا جلياً في قصيدته "المدينة المحاصرة" التي يقول فيها:
"
البحر يحكي للنجوم حكاية الوطن السجين
والّليل كالشحّاذ يطرق بالدموع وبالأنين
أبواب غزة وهي مغلقة على الشعب الحزين
فيحرّك الأحياء ناموا فوق أنقاض السنين"
ربما ترك التيار الشعري في الخمسينات والستينات أثراً واضحاً في حضور المكان في الشعر الفلسطيني، إذ ظل يحضر بصورته المباشرة، وبكل التفاصيل التي علقت في ذاكرة الأجيال التي هجرت من أرضها، فظهرت في بناء شعر تلك المرحلة ملامح المكان الفلسطيني بوصفه شاهداً على شعرية الجغرافيا، والقادر على توصيف شاعرية العلاقة بين الشاعر ووطنه .
لهذا ظلت مفردات كالوطن، والأرض، والزيتون، والبرتقال، والنهر، والحصار، والشهداء، يعلو حضورها في فضاء القصيدة، فالمتتبع لتجربة العديد من الشعراء الفلسطينيين يتلمس هذا الصوت في قصائدهم، وخير مثال لذلك قصيدة الشاعر علي فودة الذي استشهد في حصار بيروت عام ،1982 إذ يكفي القول إن أول ديوان صدر له كان بعنوان "فلسطيني كحد السيف" ويكفي كذلك أنه صاحب قصيدة "إني اخترتك يا وطني" التي تعد واحدة من روائع الفنان مارسيل خليفة، إذ يقول فيها:
"
إني اخترتك يا وطني
حُبَّاً وَطَواعِيَّه
إنّي اخترتُكَ يا وطني
سِرّاً وَعَلانِيّه
إِنّي اخترتكَ يا وطني
فليتنكَّرْ لي زَمَني
ما دُمْتَ ستذكرُني
يا وطني الرائع،
يا وطني . ." .
قد يعتقد العديد من متابعي المشهد الشعري الفلسطيني أن فلسطين كجغرافيا ومكون مادي ملموس خرجت من فضاء القصيدة المعاصرة، إلا أن المتمعن الأدبي يجد أن فلسطين لم تغب بل مرت بمراحل من التحول داخل القصيدة، حتى باتت اليوم مكوناً في لاوعي الشعراء أنفسهم، وبناءً تستند إليه القصيدة بأشكالها كافة، فلم يعد غريباً أن تحضر بوصفها مفهوم الفقد، أو الحنين، أو الأم، أو غيرها من الاشتغالات التي تحيل إليها هذه البلاد التي تتحول دائماً إلى ذاكرة ورمز .
إن شعراء فلسطين المعاصرين أولوا المكان اهتماماً كبيراً لأنه محور القضية الفلسطينية وجوهر الصراع فيها بين العرب والحركة الصهيونية.-تنوعت صور الأماكن لدى الشعراء الفلسطينيين ما بين أماكن فلسطينية وعربية وعالمية تنوعًا يدل على وعيهم جميعًا بأهمية المكان في خطاباتهم الشعرية.-ووجود علاقة واضحة بين الاهتمام بالمكان وتنوعه في الشعر الفلسطيني المعاصر، ووجود الاحتلال الصهيوني وممارسته التدميرية على الواقع الفلسطيني. لقد أعاد الشعراء الفلسطينيون صياغة الأماكن والعالم وفق رؤية جديدة اتخذت صورًا مثالية ووجدانية تجاوزوا بها المساحة الجغرافية المجردة للأماكن إلى كونها تشكيلاً روحيًّا ووجدانيًّا يزخر بالحركة والحياة، فاستنطقوها ونقلوا أحاديثها وتاريخها عبر أشعارهم، فكان ذلك تعويضًا نفسيًّا لافتقادهم فلسطين ”النواة” الطبيعة ومدنها وقراها وشوارعها.-ارتبطت تجربة فقد البيت الفلسطيني وتدميره من قبل الاحتلال الصهيوني وما ترتب عليها من آثار نفسية عميقة بتجربة فقد الوطن.-أظهرت صورة البحر العلاقة بين الوطن والمنفى، حيث كان البحر البوابة المفتوحة على ثنائية العودة والتيه لِمَا له من علاقة تاريخية بالأحداث والمعاناة الشخصية والعام، بشكل بكائي مفعم بالوجع والآهات .

تعليقات

المشاركات الشائعة