كتاب أنا و القدس ........ الفلسطيني ........ روح ترتبط بعمق المكان

كتاب أنا والقدس 


الفلسطيني والمكان:

أنا و القدس نموذج متفرد من السيرة الذاتية، يسجل لتلك العلاقة الديناميكية بين الإنسان و الأرض، فليست الأنا المتكلم الصاخب، القوي الحضور، ما لم تكن القدس في حيز الأنا الخاصة و جزءا منها، هكذا يصبح لكل ذاكرة فلسطينية روحا و بعدا آخر، إذ يصبح المكان مكونا أساسياً في سجل الوعي الذاتي.
تقدم هالة السكاكيني قراءتها الخاصة لعمر مدينة القدس حتى النكبة الفلسطينية في العام ١٩٤٨، وقد قدمت كتابها من خلال فصول ثلاثة، ارتبطت بشكل مباشر بالمكان كمحرك جوهري في الحياة الذاتية لها و لعائلتها، ففي الفصل الأول الذي جاء بعنوان " طاحونة الهواء وما بعدها" تبدأ هالة بالقول: القدس مدينتي، في تلك المدينة العظيمة ولد أبي، وكذلك جداي من الطرفين إلى الجد السابع"، فبهذا الكم من الفخر تبدأ هالة حديثها عن هذه العلاقة المترابطة بين الفلسطيني والمكان.
و تتابع في الفصل الثاني الذي حمل عنوان:" الكولونية الألمانية" وهو المكان الذي عاشت به مع عائلتها في فترة طفولتها الأولى، فالقدس مدينة الله، مهد الحضارات، مهد الديانات، المدينة التي تعددت زواياها، وتعددت الجاليات و الطوائف فيها، سيما خلال فترة الانتداب البريطاني الذي استمر حتى العام ١٩٤٨ حيث خضعت فلسطين للاحتلال العسكري الإسرائيلي.
في حديث هالة عن بيتهم في الكولونية الألمانية، تشير إلى علاقة وثيقة جيدة مع الجيران الألمان عائلة ريتز،

وصداقتها مع بنات الجيران السي و نيلي، وتورد كثيراً من التفاصيل حول المشاركة في الفعاليات المدرسية، الاحتفالات الدينية كعيد الشكر، ترانيم الميلاد، ورغم سردها لهذه التفاصيل الإحتفالية فإنها تقول
: " لم يكن للدين دور مهم في حياتنا،لا في المدرسة ولا في البيت،والدي لم يذهبا إلى الكنيسة قط، إلا لحضور الجنائز، لحضور الزفاف، أو العمودية، وفي عيد الفصح هذا الموكب بالنسبة إلينا لم يكن له أي دلالة دينية، وإنما مجرد تسلية." كما تشير في هذا الفصل إلى عدد من الجولات والرحلات التي كانت تقوم بها برفقة والدها خليل السكاكيني الذي كان يعمل مفتشا في التربية والتعليم، حيث زارت عدداً من المدن كأريحا، وبوعي طفلة صغيرة تتحدث هالة عن النفس الذي تعرض له والدها إلى دمشق، إضافة إلى ما أورده حول الإضراب العام في ١٩٣٦، إذ كان الجميل في كل هذا أن تسمع التاريخ بوعي الأطفال، وأن ترى كيف يساهم في تشكيل الهوية لديهم، ورغم أن هالة تورد أنها بدأت تكتب مذكراتها بعد وفاة والدتها أي في العام ١٩٣٩ إلا أنها تسترجع اللحظات التي سبقت ذلك التاريخ بوعي ذات الطفلة التي كانت.
القطمون البيت الجديد:
لا زال المكان هو المحرك الأقوى للصفحات، فإذ انتقلت العائلة للعيش في القطمون، مع العام ١٩٣٧، بدأت مرحلة جديدة من الوعي، توازن الكاتبة فيها بين ذاكرتين متوازيتين، ذاكرة الوطن للبلاد التي باتت تواجه حركات الهجرة اليهودية غير الشرعية، والهجمات العسكرية، و ذاكرة لمنزل جديد، وشارع يبتعد كثيراً عن المدرسة، و زيارات الأقارب و الصديقات الجدد، هكذا يرتبط العام والخاص معا، الاحتفالات، عيد ميلادها، زيارة والدتها للمدرسة، مرض والدتها والتعب الذي نال من تفاصيل الاحتفال، الصغار و ذاكرة الفقد و مواجهة الحرمان.
وفي لحظات الحروب تورد كيف استجاب المجتمع لمؤثر كهذا بسمو، وحافظ قدر الإمكان على التعليم في زمن الحرب، حيث استخدم تجربة التعليم المختلط ليضمن وصول كل طالب و طالبة إلى أقرب مدرسة له.
والعام ١٩٤٨ و سنوات من الألم قبلها:
ليست الحرب ابنة اللحظة، سنوات طوال مداد من الإعداد، ورغم أن هالة أشارت إلى العلاقة مع اليهود في بداية كتابها، وسردها لسيرتها الذاتية، اليهود السكان الجيران، إلا أنها تشير إلى اليهودي القادم أو المستقدم من دول أوروبية و عربية بهدف الاستيطان، وبناء الأحياء اليهودية الجديدة، و استملاك الأراضي، و تكوين المجموعات العسكرية السرية، وهذا ما أشارت له هالة بمسمى مختلف حيث استخدمت مصطلح الصهيونية .
مذكرات فترة الحرب:
أما الحرب فلا تترك لك كثيراً من الوقت لتنظر في تفاصيل وجهك، هكذا جاء النمط الكتابي سريعاً و كأنه ومضة، تسجل تاريخ اليوم، وتسرد اللحظات الأبرز فيه، الناس والأشخاص واللقاءات الهامة،سواء التي قامت بها بنفسها، أو تلك التي شهدتها في منزلها، كابنة أحد الشخصيات البارزة آنذاك، إضافة إلى ذاكرة القطمون، و الزحف باتجاهه و محاولة احتلاله و السيطرة عليه من قبل العصابات الإسرائيلية.
دول الجوار:
لقد شكل هذا الكتاب بالنسبة لي وعيا جديداً، وخبرة ذاتية، إذ لم أكن أفهم و استوعب كيف وصل اللاجئ الفلسطيني إلى القاهرة، وهل كان هناك حركة نزوح من فلسطين إلى القاهرة، وهل هناك مخيمات أنشئت هناك؟ البعد الجغرافي كان ينفي بالنسبة لي الفرضية، وأتابع قائلة لنفسي أن مصر ليست ضمن مناطق عمل وكالة الغوث، وقد قدمت هالة سردا يوضح الآلية التي هاجرت فيها هي و عائلتها إلى القاهرة، حيث كان أخوها سري قد سبقهم إليها بهدف تلقي العلاج هناك، وقد سكنوا لدى أحد الشخصيات البارزة إذ كان صديقا لوالدها بعد أيام قليلة في فندق صغير، وقد تحدثت هالة عن ازدحام الفنادق بالكثير من المقدسيين آنذاك، حيث تقول فيما بعد عن انتقالهم لسكن جديد، ووجود للعديد من الجيران من المقدسيين من حيهم القديم، فكما لو أنك في القطمون حقا.
يهرب الفلسطيني من ذاته إليها، يكتب مذكراته ليخرج منها، فيجد نفسه متأزم فيها أكثر، ويحدها راسخة في عقله و ذهنه، ويجد نفسه مرتبطاً بالمكان أكثر و أكثر، وربما هذا ما يفسر عودة هالة و أختها دمية إلى رام الله وتأسيسها مركزاً يحمل اسم والدها فيه، السكاكيني ابن القدس، لكنه بعضا من ذاكرته، وكثيراً من حجارة المكان تسكن رام الله، وفي وعي الذاكرة تعود دمية وهالة إلى القطمون  وتفضي بكثير من إحساسها حيال زيارتها لبيتهم القديم في القطمون، المنزل الذي صار حضانة أطفال،أطفال يهود إسرائيليون صاروا يسكنون في منزلها الذي تحمل كثيراً منه في الذاكرة، وتشير إلى أن المكان كله قد تغير، كثير من الجدران هدمت، ما من صور ولا طلاء يشبه ما كان، لم تجد الغرف التي كانت فقد هدمت جدرانها لتصبح صالة كبيرة للعب .
عرضت هالة أيضاً لسخرية المشهد ووجعه، كيف تطرق منزلك، وتنتظر أن يفتح لك غريب، قد لا يرحب بك غالباً، كيف يتحدث عن فقده الخاص، ألمه ويطلب منك أن تكون من يدفع فاتورة ذنب لم تقترفه أنت.




تعليقات

  1. سرد ووصف رائع , زرنا القدس وتجولنا باحيائها وازقتها واستنشقنا عبق المكان

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة