رواية الأم اللاجيوس... حكاية فاطمة و ألم الكتابة


رواية الأم اللاجيوس .... حكاية فاطمة " و ألم الكتابة 
أكتب لألقي حملأ كبيراً عن كاهلي 

"الأم اللاجيوس.. حكاية فاطمة"، رواية صادرة، بطبعتها الأولى عام 2017،  تتوزع على مائة وستين صفحة من القطع المتوسط.تقدم رواية الأم اللاجيوس للروائي و الكاتب نافذ الرفاعي تجربة أدبية، فنية تحاول المرور في التداخلات الذهنية، الاجتماعية و الفكرية و دورها في تشكيل الهوية الفردية للفلسطيني، تلك الهوية التي تعكسها مرآته في العتمة، في الضباب، حيث لا يقف خلفه أو أمامه أحد، فيستدعي هوية ما يتغنى بها، و يتجمل بآلامه، و يتغنى بليالي الشقاء و التشرد، و يفكر مرتين، و ربما عشراً قبل أن يقول كلمة ما، إذ عليه أن يراعي وقار الهوية.

صورة للقراءة : 

كنت أفكر بالبدء بالحديث عن تلك اللحظة الحاسمة التي تدفعك للقراءة، و أعددت في ذهني سيلا من الأفكار و التبريرات، إلا أنني عدت إلى صوابي - أو هكذا أظن- إذ أحسست أننا نبرر ما نظنه فعلا مستهجنا، و تبرر لأننا نرى الآخر بوعينا، أكثر مما نرى أنفسنا، و نفتش في المرايا التي تعكس صورنا عن صورة ذلك الآخر، أفكاره، و قاموسه الفردي. 

روح للكتابة : 

أما الكتابة فسؤال ملح آخر، وله حكاية أخرى، فإما أن تستدعي اللغة و تتجمل بمفرداته لتقول أنك تكتب لتشكل ذاتك و تبحث عن ذلك السر الكامن في كهف بين أسوارك، و ربما ستكون أكثر حكمة فتعرف ذلك السحر الذي تؤديه البساطة فتقول: " كتبت لأن لي أحمالا كثيرة تثقل كاهلي، لا أقوى على السير مسافة أطول بها."، و تعجبني الإجابة الثانية على أي حال، وأسمعها منك و أنت تنحت شخوص العمل الفني الأدبي:" الأم اللاجيوس"، أسمعها منك و أنت تنحت شخصية المفاوض- ابنا لامرأة لاجئة-  لا يقوى على تغيير ما في قضايا الحل النهائي( اللجئين، حق العودة ،القدس، المستوطنات، الدولة والحدود )، و تشكله شخصية متداخلة رغم أنها لم تكن شخصية نامية، فهي متداخلة تحمل ثقل الآن الحالي، و تتنقل من فندق إلى آخر، ومن دولة لأخرى بحثاً عن تسوية ما تترك له و لفريقه شيئاً يحتفلون به حال عودتهم إلى البلاد، إنجاز ما يتغنون به عبر برنامج الإذاعة والتلفزيون الصديقة، و هو أيضاً ذلك الذي يعي أن لا شيء يحنيه من جولاته التفاوضية هذه إلا مزيداً من الأهداف التي ستسجل في مرماه تسللا، و سيعود إلى أمه خالي الوفاض، وقد فقد خف حنين المتبقي.

نحت الشخصيات و محاكاة تقنيات السرد: 

قلت أنني لا أرى في شخصية المفاوض، و ربما الفواض كما يحب الرفاعي تسميته " شخصية نامية" إذ انتقل في الإطار المكاني و الزماني من حيز إلى آخر، لكن هذا لم يشكل سيلا من الصدمات التي تساهم في نمو المفاوض و تغير تفكيره و سلوكه.
وقد استدعى الفواض شخصية يافا لتكون الصبية الرقيقة الواعية، التي يفاوضها بالحب أحياناً، لكنه لا يقول ذلك تماماً، و يقترب و يبتعد، تتبعه تثير غروره، و تكون كصبية من الجيل الثالث بعد النكبة دافعاً و ربما مبرراً منطقياً لاستدعاء ذلك التداخل بين شخصية المفاوض و الكاتب الذي يلاحق شخصياته و يسير خلفها، يسمعها، و يترك لنفسه تلك المساحة ليكون الكاتب مسلوب الإرادة مرتين، لا لأكون أكثر صدقا، هو مسلوب الإرادة ثلاث مرات، الأولى أمام أمه و خجله العميق منها، و ثانية أمام يافا الصبية ابنة البحر، ابنة اللجوء،  بما لهذا من وجعين، و ثالثة أمام شخصيات روايته الذين تبعهم ولكل منهم ألم لا يحتمله الورق.

وحين نكتب تسكننا روح من شخوصنا، هكذا فاوض الكاتب الورق مرتين، فاستخدم تقنيات متنوعة من السرد، فمرة كانت السارد كلي المعرفة، و استخدم ضمير الغائب في حديثه، و أمعن في وصفه،"أسرع إلى  المقهى البحري، وظهرت جالسة وحيدة... وقرر أن ينسحب لان رفضها أشعره بالإهانة ... و مرة اكتفى بالسارد جزئي المعرفة، السارد الأول، الذي يتحدث بضمير المتكلم، وقد استخدم هذا النوع لإحداث حالة من الحوار الحيوي في بنية النص :" ليتني أستطيع أن أعلن عجزي بعدما تراكمت الهزائم ..." ، يعرف ذاته، مكانه أفكاره فحسب، هذا التنوع في التشكيل أضاف تقنية التداخل للشخصية الرئيسية" الفواض"، فإن ظل بلا اسم محدد، إلا أنه مرة كان يختبئ في عباءة نافذ الرفاعي فيكون هو الكاتب، و مرة يكون ذلك الفواض الذي يسير خلف حاضر لا يدركه، و مستقبل يخشى أن يصل إليه.


النكبة وتشكيل ذوات مختلفة : 

تخلق النكبة أنماطا متنوعة من الشخصيات، هل أقول النكبةو أخبئ كلمة المخيم في طيها و أكتفي؟!، أفرزت رحلة اللجوء كثيراً من القيح في الجسد الفلسطيني المهشم، ذلك الذي لا يجد لنفسه بابا يغلقها على نفسه، فيرى في كل الأبواب المغلقة حقا له، ليست الخيمة بيتا تماماً، لكن أحدهم يطوف حولها محاولا الوصول إلى غنائم ما، "مع نزول الظلام أغلقت الخيمة بإحكام، شعرت نه بالخارج، مستذئب، وراحت تحدث نفسها كأن رجلا في الخيمة.. تتنحنح كما الرجل وتجيب عل نفسها بعبارات تضخم صوتها: "أسكتي يا امرأة أريد أن أنام" تجري حوارا مع نفسها بصوت رجولي... وبدأ السكون يلف المخيم مع حلول الظلام والأصوات تخبو رويدا، وهو يحم حول الخيمة كالذئب، جلست تنتظر خائفة ".

غنائم قد لا تكون طحينا وبعض أكياس السكر، وعلب السردين، و في الخيمة التي يتحصل عليها اللاجئ مكسباً إضافياً مع بعض علب السردين المعلب التي يمكن بيعها للحصول على بعض المال، وفي المخيم يمكن لبطاقة التمويل أن تصبح بطاقتين أو ثلاثة احتيالا عل هذا اللاجئ بتكسب مزيداً من أي شيء، و في الخيمة يكبر الفقر كما يكبر من الفقر قطاع طرق، وفي الخيمة يكبر الاحساس بالبرد و انعدام الأمن، فتصبح جدران صغيرة باردة قصراً.

كثير من قوة لا ندركها في الذات : 

وفي اللجوء تتطور شخصية " فاطمة" الأم اللاجيوس، تنتقل من مدينة إلى أخرى، حيث كانت الشخصية الديناميكية النامية التي تدور في رحاها كل شخصيات العمل الفني الأدبي، هذه الشخصية لم تحظ بصوت يناديها أمي خلال الزمن الروائي، لكنها كانت الأم التي يسير الفواض بوعيها، و ارتداد صوتها، وهي الفتاة الصغيرة التي كانت تخفي أخيها الثائر عن أعين الحراس، وهي الصبية التي تزوجت بإرث العائلة التي تبدل ابنها بابنتها، بزواج بدل غير متكافئ، حيث حظيت فاطمة بزوج ستيني صار بحلول النكبة في عداد المفقودين،" لم زوجتيني صغيرة؟ لمَ لمْ تعلميني الكتابة والقراءة! " و حظيت زوجة أخيها بزوج انضم إلى قوافل الشهداء الراحلين بعد فترة وجيزة من الزواج، لم تستسلم الأم لألم الوحدة، حيث انتقلت من دور الزوجة التي تطوف الشوارع، و تقلب وجوه الناس، و تتصفح ما يتناقلوه من أخبار حول مصير زوجها، إلى سيدة تفتش عن قوت يومها في ظل تكية تهبها قليل من الطعام، و عمل تقوم به، و كانت الابنة التي تسير خلف ظل أمها التي لاحت لها بين جموع الناس، و تاهت منها بين جموع الناس، فكانت الحافلة بمواعيدها الدقيقة المحددة طريقاً للولوج إلى القدس، تفتش بين الناس عن ظل أمها، ولا تجدها، إلا أنها تحظى بعمل بسيط في أحد البيوت،" لم تعد الأم اللاجيوس تشتاق كما السابق ليكون الحامي والحارس والمسؤول عن تكاليف الحياة. لقد تجاوزت الخوف والجوع وها هي مناضلة، ولكنها تشتاق للزوج لمعتابته. فكرت في مقابلة أعدتها له بقوة شخصيتها، وأن تواجهه بالطرد عقابا له، وتغلق الباب في وجهه."

كانت فاطمة المرآة التي ترى من خلالها الوجه الحقيقي لشخوص العمل الروائي دون تجمل سردي فعال، فمن خلال تواجدها في الدكان عرفت الأستاذ جورج، و بعفوية اللحظة انخرطت ضمن سلسلة من المناضلين الذين لا تدرك ولا يدركون توجهاتهم السياسية، ولم ينضوا في إطار حزبي، فلم يكن لهم حزب أو إطار إلا الحلم ببلاد و سماء و وطن.
يشير الزمن الروائي في العمل الأدبي إلى فترة تقاسمت فيها السلطات الأردنية و المصرية إدارة شؤون البلاد الفلسطينية التي لم ينهشها الاحتلال بعد في الضفة الغربية وقطاع غزة، وصولاً إلى تسلل ريح الحرب إلى الجسد المجتمعي الفلسطيني اللاجئ، و الواقع تحت سطوة العسكر، حرب أخرى تلوح في الأفق، تتجهز لها فاطمة بالذهب أولاً رغم فقرها و ضنك عيشها، و بالسرية ثانياً، إذ لا تخبر والدتها في زيارتها لها في أريحا عما لديها من مال قليل، حرب تلوح في الأفق، و خوف جديد يسري في البلاد.

المكان وخيوط الفقد: 

يمسك الكاتب بسلسلة مديدة من الخيوط المكانية و الزمانية، فالأرض و الزمان محور القضية الفلسطينية، محور الفقد، و جدل التفاوض، أما أم يافا ففقدت ابنها في البحر، وكانت يافا الابنة الوحيدة المسيجة بخوف الأم، ولا زالت تحاول فك عرى الخوف هذه،و كثير منا تشده هذه العرى و تشد عليه الخناق، "الموج يتقاذف قارب أمي، الموج الذي سحب بقجتها وطفلها، مبتعدا به، نادت أمها على زوجها وانعقد لسانها مشيرة إلى البحر تحاول القفز.
... حاولت رمي نفسها في البحر، إلا أن زوجها أمسكها، وحاول هو أيضا أن يقفز إلا أن البحارة أمسكا به، وانهارت باكية، أغمى عليها، وهو يبكي وينظر للموجات العاتية، تملؤه الحسرة والعجز".

 أما جورج فكان مرآة لهذه الهوية الجمعية الفلسطينية، هو ليس جورج تماماً، لكنه استعار الاسم و الأوراق الثبوتية من أحدهم، أحد العابرين الذين طوقهم الغياب، ليس يساريا اشتراكيا، ليس قوميا تماماً، إلا أنه أحس ذلك البريق لكلمة أستاذ، فانضوى تحتها و صار يحب ممارسة طقوسها، يقرأ كثيراً، يتجول كثيراً، عزيزة كلماته و بالكاد ينطق بعضها، قليلة نقوده لكنه يرى فيها جسراً يصل به إلى الثائرة" فاطمة"، و ثائر هو أيضاً يجد في سجن الحفر الصحراوي مساحة لا تليق بالحرية التي يريد، يحفر، يحفر، يهرب، ليس وحيداً تماماً، يهرب برفقة أربعة عشر آخرين بسجنهم البوليس السري آنذاك،كما يقدم الرفاعي صورة البدوي، الدليل في رحلة الهروب، وهو دليل لا يخفي أولوياته، إذ يعرض التخلي عن بعض الهاربين، يتوجس منه جورج، و يحذر كثيراً، لكن لا خيارات أخرى.

الرواية و الاختلاف : 

يبدو هذا العمل الفني مختلفاً عن غيره مما قدمه الكاتب من أعمال روائية، ليس لأن الإطار المكاني و الزماني على هذا القدر من الوضوع، أو لأنه استدعى تاريخ الأماكن والمدن وتجول في أروقتها قبل أن يناديها بما لها من أسماء، كان المكان و الزمان واضحين، إلا أنه وارب في التسمية أحياناً فقال : " الغزاة" و أظنه يقصد الاحتلال الإسرائيلي، على أن الغزوة كانت عمراً مديداً لم ينته حتى الآن، ولم يبق كثير من الكلأ والعشب على أي حال، واستخدم البوليس السري، الشرطة، المخابرات  للإشارة إلى أنظمة الحكم العسكري المنتدبة لإدارة شؤون المناطق غير المحتلة حتى النكسة عام 1967.
أما في منحه للأسماء، فقد أغدق الكاتب شخوصه هذه المرة باسم لكل واحد منهم غالباً، أو لقباً واضحاً على أقل تقدير، في إشارته مثلاً : " البدوي... البوب ... الأزرق ... المغربي ... " وحظيت الشخصية المحورية الأم باسم فاطمة، وكانت الصبية في رحلة تتبع قصة اللجوء " يافا" بكل ما يحمله الاسم من ذاكرة، وقد فسر كذلك الكاتب اسم الأم اللاجيوس الذي منحه للأم في محاولة لصبغ اللجوء بروح الأسطورة، ولكنه ترك المفاوض بلا اسم يذكر، تماماً كما يحتار الأهل في اسم مولودهم الجديد حين يهبهم الله مولودة جديدة، فتقضي برهة من أول العمر باسم : " البنت" حتى تحصل على اسم ما في نهاية الأمر! يفسر الأهل أنفسهم بأنهم يفضلون مولوداً صبياً يحمل اسم أبيه و عائلته، ويفسر الكاتب نفسه مبرراً استخدامه صيغة المبالغة:" الفواض" بدلاً من اسم الفاعل :" المفاوض" للإشارة إلى هذه الشخصية بأن الفواض يقارب كلمة الخواض في الوزن الصرفي، بكل ما تحمله الكلمة من مدلول دلالي: مع الاعتذار انا فواض على وزن خواص، أو ززع نعوتاً كما تريد و انحت في اللغة." وهنا يبدو الكاتب متنصلاً من شخصيته التي ابتكرها في بداية روايته، ويبدو الشخص ذاته متنصلاً من نفسه أيضاً و كأنه يهذي: " لقد أقلعت و أعلنت توبتي..." 

يوارب الرفاعي بين شخصية الكاتب و المفاوض إذ يذهب بمرافقة يافا ليستمع إلى محاضرة أكاديمية يقدمها إيلان بابيه، حيث يرد ذكره أي بابيه في الرواية مرتين، في البداية حين يتقمص الكاتب دور المفاوض، ويذكر المفاوض أنه حفظ أعداد اللاجئين وما يرد من أرقام حول النكبة مما يذكره الأكاديمي بابيه، ويعود خلال المحاضرة التي يرتادها برفقة يافا إذ يقول : " هذا المؤرخ من قوم الغزاة، وهو أصدق من يتحدث لأن انسانيته طاغية..." وفي هذا الحوار يغلب دور الراوي الكاتب وصوته على صوت البطل المفاوض،  و ربما جاء هذا التنوع في الأبواب والصور التي مر بها برفقة يافا لتحقيق نوع من الموازنة في صورة السردية الفلسطينية، بين الصورة التي يعكسها الإنسان الفلسطيني، والصورة التي يحاول المفاوض تحقيقها، و الصورة التي نحاول بثها أكاديمياً من خلال أكاديميين دوليين و محليين.

هل نتنفس الحرية يوماً ؟! 

ما من نهاية يمكن أن نقف بها، و نتنفس الصعداء، فلا تزال قطع الغسيل معلقة على الحبال بين جدران المخيم المتراصة، ولم تكن طاولة المفاوضات مستديرة يوماً فنشعر بشيء من الندية، لكنها دائرة ندور فيها و حولها ولا نصل للكثير، ننشغل بها، نهجرها، نعلقها لبعض الوقت، نعود إليها، وثانية لا نصل إلى شيء.
قلت الكثير في متن هذه الصفحات، ولا زال في عمر البلاد روح أخرى، و زفرات حياة تحاول أن تكونها على مسافة من الآن، ولا زلنا قادرين على الحلم.




تعليقات

  1. وما زلنا قادرين على الحلم ..
    يمتد الحلم فينا يغرس الابداع في حدائق الاديب ادواحا من واقع يحدوه السعي من هذا الفواض أو المفاوض إلى قطف ثمار لم تنضج بعد برغم كل الجهد المبذول وبهذا دلالة يريد أن يمررها لنا كاتبنا المبدع على أن الحق لن يعود بالتفاوض الذي ما هو سوى مماطلة لاضاعة الحق .. تحايا تليق على هذا الغوص إلى أغوار الرواية بهذه الحنكة والدراية بشكل وضع الرواية أمامنا بشفافية اللبلور .. اعتزازي وتقديري لكما

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة