أنا لا أعير يدي لهذا الليل.... لكنه لا يصغي

بصوت واضح عال، لا يقبل التأويل يقدم الشاعر سائد أبو عبيد كلماته الشعرية صارمة حادة، أو هكذا تحس نكهتها إذ يقول :" أنا لا أعير يدي لهذا الليل."  وهو ديوان شعري صادر في العام 2019 يحمل في طيه تسعة و أربعين نصا شعرياً، و يقع في مئة و ثلاثة من الصفحات.
 ستسرح لوقت طويل تماماً كما أحسست أنا، و تفكر مراراً في تأويل مدلولات و انعكاسات الليل، و لوقت طويل وقفت في حدود غلاف كتاب تتنكر ألوانه بين الأسود، و الأزرق الداكن، و تعلو فيه الكلمات بلون ذهبي صارخ، فهو لن يعير يده، و في حدود الليل، وعلى حافة الغلاف، كان علي و سيكون عليك أيضاً و أنت تقرأ ما كتبت- إن أحببت متابعة قراءة هذا المقال، و البدء في قراءة القصائد بعد ذلك- عليك أن تدقق النظر مرتين، و ربما أكثر قليلاً، حتى ترى كفين متعانقين على تعب، و بكثير من التعب تحلق طيور سمراء فوقهما، هل أدركت الليل إذن؟! لست واثقة تماماً إذ يطوي الكتاب نفسه على نفسه، و يطوي بين طياته تسعة و أربعين نصا أدبياً شعرياً، و كثيراً من الحكايات.


الوقت و القصيدة: 
يتشكل الوقت في عمر القصيدة و يأخذ أبعاداً عديدة، في القصيدة تتنكر الأوقات، تخبئ نفسها، تعلنها صارخة حادة، وفي روح الكتاب وشاية حادة بعمر القصائد و لحظة الآن الحاسمة، فالليل روح تسري في جسد القصائد لتكون وقتها اللحظي، أما الوقت الآخر الذي يصعب التكهن به فهو وقت بث الروح الإبداعية في جسد هذه القصائد، يبدو الأمر صعباً، فلا يمكن لي أن أجزم بدقة فأعرف التسلسل التاريخي لولادة هذه اليد التي تهرب من عتمة الليل، على أنني أدعي أن قصيدة بعنوان:" عن ناي" في الصفحة السابعة و الأربعين هي القصيدة الجامعة التي تسللت من عباءتها ثمان و أربعون قصيدة أخرى:
كثيف حضورك في اللحظة الواحدة
ما زلت أشتم عطرك رغم اليباس
و هنا تتداخل في روح القصيدة ثنائية المجد الشعوري الفلسطيني ببصمته الخاصة، التي تزاوج الذات بالمكان، و الإحساس الفردي الإنساني بدفق و دفء الوجد، بالشوق و التعلق بالمكان.
...لست أنساك.. وتصعد شمسك في الذاكرة...صحت أهواك… ردت بأجراسها الناصرة.
و تتأكد هذه الازدواجية الشعورية ففي حين يخاطبها قائلاً : لست أنساك، و بينما تحاول أن تسرق النظر إلى المرأة علك ترى وجهها، تباغتك القصيدة بثنائية الإنسان و المكان حين تعلق أطياف و هواجس شعورها الإنسان على أجراس الناصرة.

سماء ثامنة: 
لما قد أختار عنواناً كهذا في حديث شعري طويل، و قبل الولوج إلى متن الكتاب بحق؟ سأقول فقد أجدت الثرثرة حديثاً، و ربما يغريك الأمر لمتابعة القراءة، فبينما كنت أقرأ وقفت في حدود الصفحة الثامنة عشرة على أغلب تقدير، و قرأت سماء ثامنة ينسجها شاعر، فتكون مساحات لكثير من أبواب لم نفتحها، و طرقات لم نسلمها، و كلمات لم نقولها،و يطول هذا، ولك أن تفكر بالأمر و تضيف ما تريد مما أردت بشدة ولم تصعد روحك إليه.
أحدثكم عن هذه السماء و في بالي سماء ثامنة أخرى أسترجع فيها عنوان مجموعة قصصية لومضات أدبية قصصية قصيرة للكاتب " سميح محسن" يلون بها غلاف كتابه الصادر في العام 2011، فتكون الروح الجامعة لسماء حكايات وومضات قصيرة حكائية، يصعد بها سدة الإبداع، و يروي تحت هذا العنوان في الصفحة 149عن سماء ثامنة لا يرسمها الخيال، ولكن توجدها انحباس أنفاس الحالمين بحرية، و أمن فوق رمال غزة ذات حصار، ذات عدوان، ذات غياب.


الليل في ديوان " أنا لا أعير يدي لهذا الليل":

"أنا لا أعير يدي لهذا الليل، يسرق من يدي أصابعي، …. لأصير حطبا كسيرا" يختار الشاعر هذه الكلمات الدالة كروح جامعة، يضعها عنواناً لديوانه، و يغلق طي كتابه عليها أيضاً، و في الكتاب روح ليل تسري و بأطوار عديدة، فقد وردت كلمة ليل بلفظها الصريح، معرفة أو مضافة إلى ما يعرفها، في أربع و ثلاثين موضعاً، كما استخدم الشاعر بعض ما يوحي بارهاصات الليل من كلمات كالعتم، و العتمة، و الظلمة، المساء، الفجر، فيقول: جوف مدينتنا في عام … مختنق صدري بالعتمات...و انتصرت على ضباب الوقت.
يحمل الليل و ارهاصات كلماته الدلالية دلالات و إشارات شعورية حسية، و ارتباطات مكانية تاريخية، بالإضافة إلى الدلالة اللفظية الرمزية لما يحمله لون الليل من الوجد و الفقد و الغياب. 
" و ربابة الإنشاد وحي في الكهوف المعتمات… لهف فراشة تهوى القيام من الظلام".
و الليل مساحة للتساؤل و التيه : " ليل آخر… قلق آخر… خريف و حنين يسقطني في الطرقات"
 


ديوان… و ثلاثة أطوار: 
أفكرت يوماً مثلي بتلك المسميات و ما تحمله من دلالات وظيفية؟ نقول عن كتب الشعر الدواوين، و نسمي النصوص و القصص بالمجموعات، و نروي و يطول السرد، و يمتد الوقت، و تتشابك العلاقات فنقول رواية. بينما أقلب صفحات :" أنا لا أعير يدي لهذا الليل" تراودني هذه الفكرة كثيراً، بين صفحات تجاوزت المئة، أطوار عديدة تتزاحم في متنها، فيكون الديوان مساحة التقاء لتنوع كبير متجانس، و أقول بوعي كاتبة أن الديوان أنجز على مهل، و بمساحة ممتدة متباعدة من الوقت، و بفراسة قارئة أرى أن الكتاب تنوع فحمل ثلاثة أطوار بين طياته، و يظهر هذا واضحاً في نمط العناوين فقد اكتفى حينا بكلمة واحدة تشرع مساحات كبيرة للتأويل مثل : لقاء...، و في حين آخر كان العنوان المنقوش من استناد كلمة على أخرى: …. بالإضافة إلى العنوان السردي الطويل الذي يحمل كما هائلاً من المعلومات:... و هذا التنوع في الأبواب عكس ما تحمله القصائد من أطوار تتشكل من تنوع الأسلوبية الشعرية، و النمط الحكائي، و قوالب النحت الشعري، و هذه الأطوار هي: 
الأنا: 
تبدو روح الأنا بالنسبة لي الأصعب، و كم يحتاج الواحد منا إلى الوصول لدرجة عالية من التصالح و الوفاق الذاتي حتى يستطيع أن يتحدث عن أناه الخاصة و يعكسها في روح كلماته، و يشي بنفسه، و سواء كانت وشاية حقيقية، أو أنها تقمص لحالة ما بروح الأنا، فهي طاقة حية مباشرة و جرأة وشجاعة في النظم الشعري، ففي البداية يعرف عن ذاته فيقول لغتي ابتسام الورد...هي أخرجتني شاعراً يهواها، و يصرخ معلنا حبه " لا أهرب لا أخفي حبي"، ثم يرجع مرمما روحه بعد فراق حامض فيقول " يداهمني وجهك في اللحظة آلافا… لن ينتصر الليل علينا و الأحزان.. و يرجع في لحظة مساء منهما:" غريب مسائي… ثقيل علي… أحتاج اليك.. أجيبي حبي... فما زال يعبق بي نفير الحبر و أنا أقصد متاهتي الغيم.


الحبكة الحكائية في روح القصيدة: 
في القصائد تختبئ كثير من الحكايات، و يشي بها نسيج الحبك الشعري الحكائي، فكأن هناك ساعة تدق في صدى الكلمات، و جسدا مكانيا يتشكل لتنفس الحكايات و تطلق أجنحتها،" أحتاج إليك...أشبعني عطرك… كان رحيلا أسود عمري، وفي تبدلت الألوان و أسماء الأوقات" و يكمتل جسد الحكاية بتناسق أعلى حين تطول الجملة الشعرية، و تصبح منوطة أكثر بالوقت:" بعيداً أعد خطى امرأة تقتفي زيت مصباحها في الحريق الشهي، و الوقت في حيرة المجهدين بأشواقهم و الأنين… أريدك أن تشربي ضحكتي و أن نلتقي خارج الحزن ساعة… علينا عبور الطريق إلى ذاتنا، كأن علينا الخروج من التيه كي ترانا.."
تتكرر النكهة الحكائية المميزة في روح القصائد في مواضع عدة، و تحت عناوين كثيرة تشي بها مثل:" ويفيض النهر"، " أنا لا أعير يدي لهذا الليل"، " أدرك رؤياك"،" أدين بحبك"،" الصبح"، و أورد هذه العناوين كإضاءات صغيرة، و يتسع مدى الكتاب للكثير.

النكرة الحادة المقصودة: 
في روح القصيدة نكرة حادة موجهة فكأنك تشعر لشدة العموم فيها أنها ليست إلا مرآة تعكسك، تلك التي لا تندرج تحت هوية ما، لكنها في منازلنا جميعا، في ذواتنا جميعاً كما النفس، في قلوبنا جميعاً كما الحب و الحقد، في قادمنا جميعاً كما الحياة و الموت، و لذلك كانت القصيدة صغيرة، قصيرة، حادة، كومضة سريعة كما لو أنها رعد بعد لحظات برق،" رقص.. العشب يرقص … الطين يرقص… و أنا أدور" ، و يشي عنك هذذا الأثير و يحك سواد الطريق،
 ومتعبة لا وعي يقض خسارتها، الشاعر يحزم أقلاماً… هل يتقن توصيف النكبة؟!
لقاء … يصنع القدر فيه صنعه… و عودة مشتهاة لا تكتمل.

الهروب إلى الظلال: 
حتى الكلمات تسند بعضها بعضاً كما لو أنها بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، و كذلك تتشكل بعض القصائد التي ترمم الكلمة فيها كسر كلمة أخرى، " أصابع ورد...أتشبث بالصمت، و أغمس فيه حرائق حبري، و الصمت قتيل الأبواب المهجورة… أيزهرني موعدك القادم!
و " طيور الذكريات" تحلق في روح القصيدة، أمشي و تنقرني طيور الذكريات… و يذبحني الغياب" 


تعليقات

المشاركات الشائعة