كتاب " أمي مريم الفلسطينية"..... الأم الضفة الأخرى

الأم… الضفة الأخرى 

للكلمات روح و أعرف أنك لم تكتبها جملة واحدة، ليست هذه فراستي، لكنها تلك السلاسل التي مهرت بها كل صفحة من صفحات الكتاب، وحدها كفيلة لتقول لي كم كان صعباً الكتابة بشكل متواصل، و بروح واحدة، و أجدك وبعد أن فاض حبرك بالكثير من الذات، التجربة، القلق، و الحنين، تقدم لصفحاتك بنفسك، و ترفع عنها كل ما قد يلحق بها من عتب إذ تقول(الظروف غير الطبيعية التي يعيشها الأسير و حبسه بين أربعة حيطان و عزله عن محيطه الاجتماعي و الإنساني كل هذا له تأثير كبير على سلوكه، ونمط حياته، و تفاعله مع الأحداث،مما يدفعه إلى التقوقع وإحاطة نفسه بجدران سميكة، مما يؤدي إلى صراع داخلي يصعب التعبير عنه و إظهاره للآخرين ) أنا لا أعاتب على أي حال لكني لا أستطيع إلا أن أقول، و أعرف أنك تصغي جيداً.


الذات: 
فكرت كثيراً قبل أن أضع" الذات" عنواناً و ركيزة أساسية، فرغم أن الكتاب نوع من أنواع السيرة، لكن روح الأسير الذي يرى البلاد في قلبه أكثر مما يرى نفسه في انعكاس المرايا و الذكريات، تقدم سيرة أدبية وطنية مختلفة، نرى فيها الشوارع، جدران المنازل، الأزقة، الحارات الضيقة، فروع الأشجار، الطين، العقود العريقة، يروي قلقه على الآخرين، ألمه لألمهم، بيت أظلهم بطوبه، و آخر بأشجاره، ودار دار في رحاها القلق فلم تقوى على ضمهم، يروي ليالي التخفي و القفز من بيت لآخر ومن شجرة لأخرى، و نتنفس معه لحظة الخلاص من دورية للجيش تمر أمام منزل بباب مفتوح فتتجاوزه دون تفتيش، و تتجاوز عيونها شجرة في الخلاء، نتنفس الخلاص و نعيش اللحظة بدقة و كأننا لا ندرك القادم الذي كان على مسافة ثلاثة وثلاثين عاماً حتى الآن.

و أنا هنا: 
و أنا هنا و هنا أنا و أنا أنا دوى الصدى إني أنا، هذه الأنا الذكية الملتبسة التي لا تشي بنفسها، أنا التحدي و الكبرياء، التي تلغي الإحساس بصلف و برودة و قسوة المكان، و تصنع لنفسها هنا خاصة، هنا أخرى واعية خارج حدود سجن و قضبان، تنسج بوعيها وطنا واحداً تحسه، تحدث مريم فرحات في قطاع غزة، أنا تكبلني جغرافية الانقسام و التشظي فأقول قطاع غزة، و أنت تسمي المكان " الشجاعية" كما لو أنه حارة مررت بها في مطارداتك، و بأناك الواعية تهمل مفردات السجن و الأسر، الجدران، و تمر عنها حين تذكرها كقارئ أخبار في نشرة محلية، فلا تتركها تكسر القيمة الكبرى التي تنوي تأكيدها في كتابك وهي بناء جسر إلى هنا، ليس جسراً تصل به إلينا، بل جسراً نصل به إليك حيث أنت هنا، وهنا التي ترسمها لنا هي حرية وليست قيدا أو سجنا، فأنت تشير إلى الإحتلال و السجان مستخدماً ضمائر الغائب غالباً الغائب:( قاموا باعتقاله… تنكروا بلباس مدني…. ) وكأنك تقول لهم: " إني لا أراكم، كل ما في الأمر أن عقارب ساعتي معطلة لبعض الوقت، لكني لا زلت قادراً على أن أكون الفرق لا أن أصنعه فقط ." 



الأم و اعترافات خطيرة:
مريم الفلسطينية الناصرية كانت النموذج الذي غازل به الكاتب أمهاتنا الفلسطينات،وهي ليست محض مقاربة صنعتها الصدفة، بل كانت قيمة التضحية التي تبذلها الأم الفلسطينية، ووجع الانتظار، و ليل طويل من الألم، يسافر الابن و تنتظر الأم عودته، يمرض فتسهر على راحته، يطارد فتكون ساعة المنبه، وجرس الإنذار.
في الحديث عن نموذج لسيرة ذاتية، كان يمكن للكاتب الوقوف أمام مرآته، و الإغراق في المبالغة و تبجيل سيرته النضالية قبل الأسر و خلاله، لكنها كانت الاعترافات الأصدق إذ تناول تجارب أمهات الأسرى ممن التقى بهن أو سمع وقع خطاهن في قلوب أبنائهن رفاقه في الأسر.

قدم الكاتب اعترافا إنسانياً واضحاً أن الأم هي الضفة الأخرى للنضال، تناضل بصمت، و بصبر تتلقى الإرتدادات القاسية إذ ينادي الوطن أبناءها فيلبون النداء، فتودع الشهداء وتطلق الزغاريد و تغني و تبكي في آن واحد، ويسرق الجنود أعمار أولادها في الأسر، فتهب أبناءها كثيراً من عمرها في الطريق إليهم، ويطول الطريق ولا تمل، وكم رغيف خبز برد قبل أن تعود يا رائد!

روح الانسان تسمو: 
عكست الصفحات كثيراً من الشموخ و الكبرياء، فلم نسمع صوتك تئن أو تشكو، تحدثت عن الوجع ولم تظهره، و في الوقت الذي منحك ارتداد الزمن و تسارعه في فلسطين كثيراً من التغيرات و المفاصل السياسية التي يمكنك تناولها لا بعين الكاتب المحايد، بل بروح الشريك المستبعد بعد كل هذا العناء، نجدك آثرت أن تقدم سيرة أدبية وطنية إنسانية لم تخض فيها تفاصيل وجع حلم الحرية الذي بهت مرتين، إذ نكث الاحتلال بعهده إبان توقيع اتفاق أوسلو و تجاوز بند الإفراج عن الأسرى القدامى و عاد ثانية و خلال المباحثات و الاتفاقيات للعودة إلى طريق التفاوض و التي اشترط فيها الجانب الفلسطيني الإفراج عن الأسرى، لكن الإحتلال و على عهده نكث بعهده، و أوقف الأفراح عن الدفعة الرابعة عام 2004، هكذا يكون كتابك " أمي…. مريم الفلسطينية" صورة لنضال إنساني في مواجهة الاحتلال. 
 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة