نشارة الخشب ... فنون بوقع الذاكرة

تساءلت و لفترة طويلة ما الجميل في فعل القراءة، الحقيقة أعدت على نفسي السؤال كثيراً ، و تمعنت في روح الكلمة " فعل" هل القراءة فعل، وهنا لا أتحدث بالضرورة عن أقسام الكلام، بل أقصد جوهر الحدث" قرأ" هي هي فعل حقا؟ 
أدعي أنني لا أثرثر، لكني سأشي بما فكرت به، يرتبط الفعل بالزمن، فهو ليس قائما بذاته ما لم يقترن بوقت، أما القراءة فهي حدث السكون و الحركة في آن واحد، فحين نطالع الكتب نجلس، ربما نتكئ، ننام، وهو فعل يختلف عن المذاكرة و الدراسة التي ربما نطوف الأماكن فيها و نحن نحاول أن نحفظ المعلومات عن ظهر قلب، وهي فعل الحركة إذ تنقلنا من سكوننا إلى أزمان لم نعشها، و تسافر بنا إلى جغرافية لا ندركها، هكذا كان وقع كتاب " نشارة الخشب" بالنسبة لي، قرأته منذ أسابيع، و قرأت كتابا آخر، وعدت ثانية إليه، لأنه كان الكتاب الذي شغلني بالأسئلة.

جاء كتاب نشارة الخشب ضمن سلسلة الفن الفلسطيني، ليجيب على سؤال " من أين يأتي الفن؟ من كل مكان، و من ماذا يصنع؟ من كل شيء." يعرف الكتاب عن نفسه بهذا الشكل، و أختار أن أضع تلك الأسئلة ضمن علامات ترقيم تحفظ هذا الاقتباس، و يبدو الأمر مريحاً، إذ أن لي أسئلتي الخاصة التي أثارتها الحكاية، كثير من التاريخ، و بعض من الجغرافية.
أما الحكاية: 
أروي قصة نشارة الخشب حكاية صبي يدعى عبد الحي من قرية الدوايمة، التي يأتي إليها الناس لتأدية نذورهم و يتشدقون و يلاقون أحبابهم و يزورون مقام  الشيخ علي، و في إحدى المرات ينام عبد الحي فيرى كابوساً مرعبا إذ يرى أنه يجري دون ذاكرة، و يظل قلقا فترسله أمه إلى نجار يعلمه الحرفة ليشغل بها نفسه، و يتابع العمل فيستخدم نشارة الخشب ويصنع تماثيله الخاصة.
" أخذ يجرب ويلعب بالعجينة، و يعيد تشكيلها، و يصنع منها قطعا جديدة يهديها لأخوته و أطفال القرية، لكنه ظل محتفظا لنفسه بأول تمثال صنعه من نشارة الخشب" .
  و تعصف الرياح في البلاد و فيحمل أغراضه وما تبقى في الروح من ذاكرة و يخرج من دياره بعد كل ما أصابها من ألم و احتلال " وفي ليلة حالكة انتشر الخوف في القرية من هجوم عصابات غريبة .... هكذا أجبر عبد الحي على الرحيل عن قريته الدوايمة، و أجبر على ترك الحقول والبيارات و أيام الحصاد. "  
يعيش اللجوء مهاجراً في البلاد، و يضل صراعه الذاتي قائما، فهو الشريد ابن  الأرض المسلوبة، يفتش في روحه عن الطريق فيجد في الفن طريقاً و مسلكا، يحيي فيه الذاكرة، و يسترد فيه ما سلب منه من بلاد من خلال الفنون و التشكيل، فيستخدم نشارة الخشب في التشكيل و التصنيع، و تصميم المجسمات و اللوحات التي تعكس صورة بلدته الصغيرة" الدوايمة".
الدوايمة... أوحت القصة لي بأن أهلها و سكانها يعملون بأعمال النجارة و التشكيل، و سألت بعض الأصدقاء فحصلت منهم على بعض توقعات بأن البلدة رعوية بدوية، يعمل أهلها بالزراعة و الرعي، أما ما وجدته عنها من معلومات موثقة مكتوبة فكانت من خلال بوابة الهدف الإخبارية، و بعض منشورات جامعة بيرزيت، و التي تروي قصة إعتداء عشرين من العصاباب الصهيونية على القرية، حيث تم قتل 170 شخصاً من أهالي القرية، و احتمى بعضهم بالكهوف، فعادت العصابات للهجوم ثانية.


تمنيت لو أني أعرف أكثر عن بلدة الدوايمة، بلدة لم يبق منها إلا اسم في ذاكرة الأجداد، و انتماء للجذور في وعي الأبناء و الأحفاد، ثلاثة أجيال نشأت على أنقاض وجع النكبة و اللجوء في العام 1948، ولا زالت حية في وعينا يكتب محمد النابلسي قصة و على مسافة أيام من الذكرى الرابعة و السبعين للنكبة الفلسطينية لا تزال الذاكرة حية يقظة بصور تعكسها الفنون، و الحرف اليدوية، و الكلمات، و الاغاني الشعبية، و التراث الفلسطيني المادي والمعنوي.

تنوعت رسوم القصة و تعددت ألوانها، لكنها عكست بشكل أساسي روح القصة، و ركزت على ملامح الوجوه فكانت واضحة و اتخذت مساحة كبيرة من الصفحة، كذلك عكست التراث الثقافي من خلال تصوير موسم الشيخ علي، و بيادر القرية، و كانت الألوان زاهية ترابية ابنة الأرض تنوعت بين الأخضر و الأصفر و اللون الخشبي في بداية القصة، و كانت سوداء حالكة و رمادية باهتة في لحظات الهجوم على القرية و الرحيل منها، و عادت لتصبح صورا بنكهة الحنين للغياب و الذاكرة، ملونة بألوان الورد و الأرض و الحصاد، لكن الوجوه ظلت في ملكوت التيه و الغياب، وجوها بلا ملامح، محض وجوه .



تعليقات

المشاركات الشائعة