"بر ..... بحر " العرض ابن لحظة الحياة الآنية

الفن المسرحي و اللحظة الآنية: 
لا يمكنك أن تدرك تماماً معنى أن يكون الفن المسرحي ابن لحظة الحياة الآنية، وهو يعود بك نصاً و فكرة إلى بدايات الهجمات الاستعمارية الاحتلالية في فلسطين منذ الانتداب البريطاني إلى الهجمات و الهجرات اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين.

حكاية العمل: 
يحكي العمل الفني حكاية القرية الفلسطينية المهجرة " الطنطورة"، يمر التاريخ بها و تبقى، نسمع صوت الجنيهات الفلسطينية فنستعيد فترة طويلة من الاحتلال العثماني و الانتداب البريطاني، و نصغي لصوت سكة حديد حيفا تغيرت وجوه  المحتلين كثيراً عليها، وبقيت هي ابنة البلاد، ونصغي لصوت إذاعة صوت العرب في مذياع قديم بصوت خميل، و نقف على حافة طريق ترابية بانتظار أستاذ سيأتي ليتم افتتاح مدرسة صغيرة في قرية بعيدة نائية، نقف قبالة البحر، نصطاد السمك، و ننتظر مواسم الحصاد، نعجن و نصنع الخبز، و ينقلب إناء الطحين و يندلق الزيت إذ يضج المكان بصوت أزيز الرصاص حين تقتحم عصابات صهيونية القرية، يموت الصغار، يثور الصغار، تضيع البلاد و تظل الحكايات، و تبقى الذاكرة.






أربع جولات في مدينة يتجول بها حلم العودة: 
 مسرح الطنطورة بعرضه المسرحي " بر .... بحر " ضمن جولات تنظمها و ترعاها وزارة الثقافة الفلسطينية في العديد من المدن والقرى الفلسطينية، و تحظى مدينة جنين و مخيمها و بلداتها بأربعة من هذه العروض، و لن أرهقك بقراءة جدول العروض في متن سردي للحكاية و لكني سأترك لك النظر في جدول العروض، و علك إذا قرأت مقالي اليوم ترغب في مشاهدة العرض الأيام القادمة.





الطنطورة وحكاية اللجوء: 
" بر و بحر" هو عمل مسرحي فني بسيط، يتناول بشكل تلقائي عفوي حكاية " الطنطورة" وهي إحدى القرى الفلسطينية المجاورة لحيفا، و التي ارتكب فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي أولى مجاوره بعد إعلان قيام دولة
 الاحتلال الإسرائيلي، بعد عدد من المجازر و الجرائم التي ارتكبها العصابات الصهيونية المنظمة، والطنطورة كانت المكان الروائي الغني بوجعه الإنساني، رصدت رضوى عاشور في صفحاتها كثيراً من تاريخ وجع و غياب، و يأتي هذا العرض ليقدم ومضة صغيرة عن كثير من تاريخ بلاد.




اللحظة الآنية الحاسمة: 

 الواقع هناك الكثير الذي أريد أن أقوله حول روح النص و ما جاء فيه، و الطريقة و الأسلوبية التي تدفقت من خلالها الحكاية، لكني في هذه المرة أتمنى أن تطوف معي في تجربة اللحظة الآنية لمسرحية" بر و بحر" في مركز النشاط النسوي في مخيم جنين.

هذه هي المرة الأولى التي أذهب بها إلى مركز النشاط النسوي،تأكدت من موقعه من صديقتي حنين أمين القائم بأعمال مدير مكتب ثقافة جنين، أعرف تماماً مركز صحة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المتاخم للمركز، لكني تهييت الدخول للمكان، فقد كان زاهداً باليافطات لا يعرف عن نفسه، و يبدو مدخله كما لو أنه فناء منزل، حدثت حنين فكانت تقف بانتظاري أمام المركز.

عرض فني يكييف نفسه و الأماكن: 

عرض فني بسيط يمكنه تكييف نفسه مع اختلاف الأماكن و القاعات و الغرف التي تستضيفه، فنانان مسرحيان و أدوات فنية بسيطة، و شاشة عرض تقلب الصور من لحظة إلى أخرى باختلاف الشخصيات و الأزمنة، و بعض الثياب التي تتقلب من خلالها الشخصيات بين الصياد، و المعلم و غيرها من الأطوار،  أما الحضور فكان عدداً كبيراً من أطفال مخيم جنين، يفترشون الأرض، يجلسون القرفصاء أحياناً، و يلاصق كتف أحدهما الآخر، وما من مسافة واسعة بين الجمهور و منصة العرض الفني، كانت المسافة بالكاد تكفي لشخص نحيل بحجمي تقريباً ليقف دون أن يمد ذراعيه في أي اتجاه، ما درج نقف فوقه صعوداً و هبوطاً، تقنيات إضاءة متواضعة كلمبة السهار الليلية، و تقنيات صوت بحالة جيدة، على أنها لا تخصص موسيقاها الفريدة، بل تستخدم موسيقى عادية تستعيرها من بعض الأغنيات، و أحب كثيراً الحديث عن صوت الأغنيات فتلك حكاية أخرى.





منطقة حدودية و تاريخ: 

جلست في "منطقة حدودية" ، و رغم قساوة الكلمة تاريخياً و سياسياً و بشاعة ما تحمله من ثقل سيما في هذه الأيام التي تتنازع فيها دول حدودية على بعض أرض، و تضرب الكوارث الطبيعية و الزلازل المكان، فلا تميز حدود هذه الدولة عن تلك، و كلاهما يتقاسمان الوجع في الجمهورية العربية السورية و في تركيا، جلست في" منطقة حدودية" بين الجمهور، و العرض و كواليس العرض(back stage)

  و مرة أخرى تمنحك بساطة المكان فرصة عيش لحظة الحياة الآنية للعرض المسرحي، تمر ميسون أبو عين بمحاذاتي تماماً تمر وهي الحجة العمشة، و تعود بعد لحظات وجيزة و قد أصبحت أم اليتامى، وهنا لا أسرد دخول و خروج الشخصيات تباعاً، بل أستعيد لحظتي الخاصة وقد مرت إحدى شخصيات العمل بمحاذاتي، وقد تنفست ثقل لحظتها الأخيرة، قبل أن تنزع عنها وجع شخصية و تعود وقد ارتدت وجعاً آخر.

جمهور يصنع العرض: 

بمحاذاة منطقتي الحدودية جلست السيدة نجاة، وقد كانت معلمتي في مرحلة التعليم الأساسي، حيث درستني العلوم العامة في الصف الثالث، قلت ربما لا تذكرني، لكني لا أنسى صوتها الجهوري، وبحة صوتها الحادة، وهي تحمل رمال صحراء الجزائر، و أمواج البحر الأبيض المتوسط، ووفاء منها و منا لبلاد المليون شهيد، لا أذكرها الآن لأنها معلمتي و حسب بل لأطوف معكم في اللحظة الآنية للعرض المسرحي، فقد وقفت نجاة كواحدة من شخصيات العمل المسرحي، فقد أخذت من ميسون و نضال السمك و البطيخ و العصا والأعلام وعديد من الأدوات الفنية التي تناقلها الجمهور و لمسها بيديه كما لو أنه شريك بالعرض، بعضهم صفق، وقف يغني، أو شارك ميسون و نضال لحظة العرض، و بعضهم تلقى نقداً لاذعاً من الحجة العمشة " امسكي ولا أنت على اديك نقش الحنا" " خذن هالسمكات حضرن غدا " " أنت يا ولد مشاكس اقعد... كن ... أهدى" فالمساحة الضيقة التي بالكاد تتسع لوقوف شخص واحد، كانت كفيلة بجعل جمهور العرض المسرحي من الأطفال بذواتهم أبناء هذا العرض على بساطته، و رغم أنه لا ينتمي فنياً إلى مسرح الطفل بشكل مباشر إذ يمر بالعديد من المراحل التاريخية الصعبة و التي قد لا يدركها كثير من الأطفال.


أطفال و جنود غرباء: 

يعرف الأطفال بعضاً من الأغنيات التي كثيراً ما يسمعونها في أزقة المخيم، يدرك الأطفال روح ظل العلم الفلسطيني فيسارعون للجلوس و الوقوف في ظله في لحظة ختام العمل المسرحي- رغم أن استخدامه في تلك اللحظة التاريخية وأقصد النكبة الفلسطينية و التهجير أمر فني تقني، أكثر منه لحظة توثيقية تاريخية- يتذكر الأطفال مع ارتفاع أزيز الرصاص في لحظة استعادة مجزرة الطنطورة ذاكرتهم اليومية في اقتحامات جيش الاحتلال الإسرائيلي لشوارع و أزقة و بيوت مخيم جنين في المساء و الصباح وفي ساعات القيلولة في الظهيرة، و يستعيد الأطفال أوجاع أمهاتهم ممن فقد عزيزاً و ربما أعزاء من  أهل وأبناء و إخوة وبنات خلال الانتفاضة الشعبية الثانية و اقتحام مخيم جنين العام 2002.


ذاكرات كثيرة فتحت أبوابها في ذهن و بال كل واحدة من الحضور، تستعيد سحر أبو الرخ ذكريات عروض عديدة لمسرح الطنطورة في هذه القاعة الصغيرة، و أطوي مع سحر و حنين بعض الأقمشة الطويلة، يحزم العمل المسرحي نفسه و يبدأ الأطفال بالخروج، يطوي العمل نفسه في بال كل واحد من الأطفال بطريقته الخاصة، وحدهم عرفوا متى يبدأ العرض فجلسوا و استعدوا للمشاهدة، و وحدهم عرفوا لحظة ختام العرض، فقد صنعوها بأنفسهم حين وقفوا في ظل الأعلام، ولم يصفقوا لنضال و ميسون بل كأنهم صفقوا لأنفسهم.





 

 



تعليقات

المشاركات الشائعة