معرض الكتاب ... هو المكان ذاته ... لكنه اختلاف التجربة



تبدو المسافة طويلة من جنين إلى رام الله، تتلاحق كثير من الصور في الطريق، شوارع عليك أن تتأكد فيها مراراً أنك لم تنس هويتك الشخصية، هل ننسى هوياتنا أحياناً، ربما يحدث هذا كثيراً بسبق إصرار و ترصد واضح إذ ترغب في تجاهل صوتك الداخلي العميق، و الطفو فوق مخاوفنا، فحين أنسى ذاتي، و أتجاهل هويتي الذاتية سيمكنني أن أغمض عيني و أقف على حافة الحلم، و أتحدث بصوت عالٍ لا أهتم بأن أسمعه.


على أرض سرا، في السابع من أيلول انطلق معرض فلسطين الدولي للكتاب، على أرض المكتبة الوطنية، اليوم نتجول مع مجموعة من الزميلات في أروقة و زوايا المعرض الذي يستمر  حتى السابع عشر من أيلول، بمشاركة عربية واسعة.
  تشارك هذا العام 390 دار نشر عربية ومحلية من الأردن ومصر ولبنان والمغرب وسوريا والعراق والكويت والإمارات وتونس والسعودية، و يبدو من السهل معرفة هذا إذ ترفرف الأعلام العربية فوق بعض الزوايا في المعرض، و يصادف أن تسمع أحياناً لكنة أخرى و نكهة صوت مختلفة.


استوقف بعض الزملاء رواق بأبواب خشبية حمراء منقوشة، شيء يشبه الارابسك الشامي، لكنه مغربي النشأة، وفي زاوية وكالة بيت مال القدس التي صممت ضمن الطراز المغربي، بدأ الزملاء يقرأون تحياتهم و يطمئنون على الأهل في المغرب إثر ما خلفه الزلزال هناك، قد لا يعرف الفلسطيني كثيراً عن جغرافية دول المغرب العربي، لكنه يحس الألم و تجده يضع كفه تساند بود و تضمد الجراح، فقد أحس الفلسطيني في نفسه روحاً في بحثها النضالي عن البلاد فلسطين طافت الأردن و سوريا و لبنان و الكويت و تونس، و في لجوئها و تهجيرها رسمت أحياناً المكان، و كتبت كلمتها فوق الأرض، و رفعت راياتها في السماء.

أحلام و وطن: 
يحمل المعرض عنواناً زمنياً مشرعاً على احتمالات النصر و الانتظار،  فيأتي تحت عنوان "فلسطين من النكبة حتى الدولة" وإذ كانت الكتب و المطبوعات و الدوريات، و كثير من النتاج الأدبي والثقافي المحلي و العربي سجل ووثق للنكبة الفلسطينية عام 1948، يظل حلم الدولة " فلسطين" الأمل الذي تهجس به أنفاس و زفرات الكتاب و القراء، و بائع الجرائد، و قارئة الكف، و معلم التاريخ، و بائع القهوة، سائق الحافلة، الحداء، و أنا.

معرض الكتاب و حكايات التراث: 
للكتب حكاية، وحكاية أخرى للوقت، للحظة التي تجد نفسك منجذباً إليها، و ولا يمر الشاعر الشعبي أبو الناجي بأروقة المعرض دون أن يلقي عليها تحيته الخاصة بشعره الشعبي، و زجله الفني بصوت جهوري يتردد صداه في سماعة هاتفي، بينما أؤكد رغبتي في المشاركة و حضور فعاليات خاصة بفضاء الطفل غداً ضمن زيارة مجموعة من مكتبي مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، و أدرك أن لكل يوم نكهته الخاصة، و أن لا تجربة تشابه الأخرى ، ولا لحظة تبدو نداً للأخرى.

الأسرى و أقلام الرصاص: 

أدرك تماماً أن ما من قلم رصاص يمكنه عبور بوابة السجن، ليكتب به الأسير بعضاً من روحه، و أعرف أن حدة الرصاص على الورق تبهت بعد لحظات، سيما إن طوينا الورقة مراراً لتتمكن من العبور فوق كثير من الأسلاك الشائكة، لكنه وقع الرصاص ما تتركه حياة كلمات الأسير الفلسطيني خارج القضبان، فبينما تتساقط أوراق عمر الأسير في السجن، تكبر كلماته خارج السجن سرب حمام و أغنية و كثيراً من أمنيات، وفي رواق صغير تخصص هيئة شؤون الأسرى و المحررين زاويتها لتعرض بعضاً من أيادي الأسرى و بصمات أصابعهم، و أسمع الكتابة إسراء عبوشي تحكي عن مجموعتنا المكتبية " مجموعة رواد المكتبة" التي تهتم فيها كثيراً بمتابعة و إطلاق الكتب الأدبية، مجموعة تصفحت و قرأت كثيراً من الكتب و الأعمال الأدبية التي يكتبها الأسرى، ولا يجدر بالأسير أن يكون كاتباً أو أديباً فذاً ليسجل مخطوطاته الخاصة، بل يكفيه ما يحمل من ثقل وخصوصية التجربة، من الانعزال و التقوقع الفردي و الجمعي ليكتب مخطوطته الأصيلة.






شعر و أصوات شابة: 
يعد الشاعر هشام أبو صلاح كلماته هذا المساء، ليكون ضيفاً على فضاءات صالون سلمى الجيوسي، و يتقاطر الشعر شهداً من بلاد تقاطر فيها الشهداء قناديلاً في الربوع، وفي تمام الواحدة ظهراً أجلس مع بعض الصديقات و الزميلات، حيث يعد الشاعر حسن علاونة والشاعر هشام قلالوة و الشاعر سنيم عمور شعرهم، و ما تيسر من فيض أقلامهم ليكتبوا لنا بعضاً من كلمات الإهداء التي نتذكر بها معهم هذا النهار الذي أطلقوا فيه أصواتهم الشعرية الشابة في كتاب تنشره وزارة الثقافة بالتعاون مع بيت الشعر، و تكون الكلمة هي اللحظة الفارقة في عمر الحكاية.



الرواية و عمر الحكاية:
الرواية تجارب و شهادات إبداعية، بدأ العنوان ملفتاً بالنسبة لي، فلا بد أنه حديث عميق ضارب في روح تراب فلسطين، يروي كثيراً عن فلسطيني عاش وجع الأرض، و تأخر كثيراً في توثيق روايته أدبياً، ليس كسلاً أو سوء حيلة، لكنها البلاد، و حلم الصمود فيها، و لكنها البلاد و حلم العودة إليها من الشتات، و تحت هذا العنوان أعد ثلاثة من الروائيين الفلسطينيين تجاربهم الأدبية الحديثة و حاولوا تقديم أنفسهم بتواضع الكتاب نماذج دراسية لتجارب أدبية و شهادات إبداعية، تتبعت الكاتبة حمدة مساعيد خطوات الرواية التاريخية الفلسطينية، و طافت بالحضور بين زاوية و أروقة العديد من الأعمال الأدبية الفلسطينية في فلسطين و في المخيمات الفلسطينية و مناطق اللجوء، و ذكرت عدداً من الأعمال الأدبية، و انتهت بتقديم تجربتها كنموذج من الأعمال التي كتبت حول مخيم جنين، و سيرة اللجوء و الهجرة وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي الدامي في العام 2002من خلال رواية " تحرير" ، كما قدم الكاتب نافذ الرفاعي تجربته الإبداعية من خلال التعريف بأعماله الأدبية التي تناولت أدب السجون " قيثارة الرمل" ، و العمليات الفلسطينية العسكرية" امرأة عائدة من الموت" كما عرج على أعماله الأكثر حداثة كالخنفشاري و الأم اللاجيوس، و التي تأخذ من العودة و اللاجئين محوراً أساسياً، كما تحدثت رولا غانم عن تجربتها كواحدة من التجارب التي توثق للحالة الفلسطينية الإنسانية إلى جانب الحالة النضالية.


فضاء الطفل: 
مساحة خاصة في معرض فلسطين الدولي للكتاب مخصصة لفعاليات و أنشطة ثقافية متنوعة تستهدف الأطفال و اليافعين من مختلف المناطق، وقد حظي بزيارة عدد من المدارس المختلفة.
طائر الشمس: 
هل نحكي عن حلم الطيران حين نقرأ طائر الشمس؟ هل نفكر بالبلاد بأسمائها و جغرافيتها؟ أم ترانا نلتفت إلى أصابع عمالها و الحرفيين فيها، و عيون سيداتها و هن يحكن الصوف و يلبين العجين في ساعات الفجر الأولى؟ 
في  فضاء الأطفال جلست مع زميلاتي من مكتبي مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي نصغي لحكاية " طائر الشمس" و نرى تفاعل الأطفال القادمين من مدارسهم للمشاركة في الفعاليات المتنوعة، و نسمع أصواتهم يسيرون مع طائر الشمس، لا بل يحلقون معه و يرددون أسماء بلادنا، أرضنا الفلسطينية مدينة بعد أخرى، مرة بعد مرة يرددونها واحدة بعد الأخرى، لا يغفلون عن واحدة، ولا يخطؤون في المسار الذي تبعه طائر الشمس، الجميل الذي أحسست و رأيت في هذا النشاط كان التفاعل الجمعي، و اشتعال الأصوات معاً و ارتدادها في الخيمة، و خروج صداها في المكان، و الانصات إلى الأطفال يرددون أسماء مدن و قرى لم يدخلوا إليها سابقاً، و ربنا لم يسمعوا أسماءها.
شاركت زميلتي حنين أمين في فعالية قراءة قصة طائر الشمس لمجموعة من اليافعين  ضمن حملة "أبي أقرأ لي" و التي نفذت في المركز الكوري في جنين، و أتذكر خلال تلك القراءة التشاركية كيف ردد المشاركون اسم كل بلد من البلاد بموازاة ارتباطها بهويتها المهنية و الزراعية،  و أتذكر حتى اللحظة كيف ارتبط اسم حيفا بالورد، و كم كان هذا حميمياً وكم أشعل من ذكريات و أصوات في أذهان الأطفال الذين سمعوا كثيراً عن حيفا و قراها من أجدادهم من اللاجئين.

طائرة ورقية و حلم: 
أتذكر في صغري كيف كنا نطوي ورق الجرائد فيصير قارباً، و يصير طائرة، و كأنها أحلامنا تقودنا إلى التحليق بعيداً عن لحظة الآن الصامتة الراكدة. لم أجرب أن أطير طائرة ورقية ملونة معقودة بيدي بخيط، على سطح منزلنا، ولا أذكر أني اعتليت السطح، فلا زلت أنا و أحلامي نسير في فضاء مفتوح، لا نقوى على الوقوف على حافة تحقيق الحلم، و الصعود بلحظة الآن إلى أعلى و التحليق بها شموخ.
تجمع بعض الأطفال يصغون إلى صوت الطائرة الورقية، نعم لها صوت جميل يعود بكل منا إلى لحظة ما في طفولته، و حديث فيه كثير من الاستكشاف للحظة صناعة الطائرة الورقية بأيدينا، و كم كانت اللحظة مختلفة تماماً، بين التحديق الاستكشافي  بالأستاذ القائم على الفعالية، و هو يصنع الطائرة خطوة خطوة، بود تسلسلي مدروس، و بين لحظة تشكيل مجموعات صغيرة عديدة من المشاركات، بدأت كل مجموعة في لمس أدواتها و النظر في كل ما يتشكل أمامها من بضع أوراق جرائد، و أوراق ملونة، عصي و بعض أعواد و علب الصمغ و الحبال.
في ذاكرتنا كثير من الحبال و العقد المحكمة التي أوثقتنا و قيدت روحنا، وفي عيوننا الآن حبال أخرى، و عقد تربط بشكل دقيق و محكم لتكون جسراً للطيران و التحليق إلى أعلى.
هي الأشياء ذاتها... هي الأماكن ذاتها.... هو الوقت ذاته، لكنها تجربتنا التي تصنع الفرق في لحظاتنا المختلفة.




 

تعليقات

المشاركات الشائعة