شغب

شغب 




هو شوق للحياة، لتفاصيل العيد البسيطة الساذجة، رغبة في الهروب من صور الموت، والدمار، وصخب الفقد، حالة غريبة عشتها بين ألم يحاصرني وصخب لذيذ أهرب إليه.
تجاوزت شوارع المخيم، لا زالت تعايش حالة حذر وترقب، مرهقة هي، صامتة، تلملم غبار أيام طويلة من القصف والدمار والتشتت.

يحدث أن أحلم بيوم عادي، أن أهرب من كل التفاصيل القلقة، وأعرف أن العيد هذا العام في غزة مختلفا، أبي اليوم لم يخرج مبكرا لأداء صلاة العيد واكتفى ببعض الأدعية في المنزل، وأمي أعدت كعكا خجولا فلم أرها تدعو الجارات وهي تعجن الطحين وتنتظره طويلا قبل أن تحشوه وتكوره وتشكله.
لا أجيد حتى الآن التنكر لصوت الشغب في ذاتي. أحتاج عمرا لأصبح بعمر أمي التي لملمت بعض ألمها من شظايا قذائف طائشة أصابت يدها، واستيقظت في اليوم الثاني بيد مضمدة وأخرى تخبئني بها إذ يخيفني صوت القصف.

من بعيد ومن بين الرمال الحارة في نهاري صيفي كهذا بدأت أرى المراجيح وهي تصبح أقرب، هي اليوم هادئة على غير ما اعتدته في أيام العيد، حين خرجت من المنزل كان صوت أمي يحاول إعادتي للمنزل، بينما أبي يؤكد أنه سمع أمس عن هدنة تبدأ صباح اليوم. لم أجد الكثير من الأطفال في لمكان لن أحتاج اليوم إلى خوض شجارات عنيفة  لأحصل على دوري في التأرجح.

يحدث أن يتنكر الموت في أول أيام العيد بقذائف عمياء لا ترى تماما أن المكان فارغ إلا من بضع أطفال يفتشون عن مساحات للعب، لا تسقط ذاكرة صبية وصبايا لا أعرفهم لكنا تقاسمنا معا بعض المرح، كما تقاسمنا مصيرا مرتبكا وعد أكثرنا بالموت، وأخطأني مخلفا بعض الجراح القاسية.

تقول أمي أني وجدي نشبه بعضنا كثيرا. أما جدي ففي العدوان الفائت قبل عامين، كان يقضي الوقت مساء مع رفاقه، يشربون القهوة ويدخنون سرا هاربين من لوم وقلق زوجاتهم، ويجتمعون حول طاولة الزهر، هم بحثوا عن وقت لأنفسهم هاربين كما هربت أنا إلى المراجيح. شعر جدي بالتعب والنعاس وقرر الخروج عائدا إلى المنزل. كانت بضع دقائق تفصل خروجه من المكان، وصوت القذائف التي بدأت تهوي فوق طاولة الزهر.
أذكر وجه أمي إذ دخلت المستشفى متجاوزة الكثير من الأشخاص المحمومين بالترقب والقلق، فتشت عني هاذية وحين وجدتني فوق إحدى الكراسي بذراع مصابة، وقدم دخل إليها لكثير من الشظايا، شكرت الله كثيرا وهي تقول أني أشبه جدي كثيرا.

أخطأني الموت كما أخطأ جدي تلك الليلة وعاد إليه بعد عام واحد متنكرا بهدوء ووقار، كان  يصعد الدرج حاملا بعض الأكياس والحلوى التي أحبها، كان الموت يقف على الدرج القصير وقد اختار أن يسجل لجدي نهاية هادئة.

اليوم أخطأني الموت، لكنه لا زال يقف بين الأزقة، في الطرقات، في الشوارع الضيقة، في البنايات العالية، وعلى الشاطئ، في كل مكان.  


تعليقات

المشاركات الشائعة