أخيلة

أخيلة

تسمع صوت حذائها ذي الكعب العالي إذ تصعد الدرج، صوت متراتب متقطع يرجع إلى أذنيك صوت ارتطام أوان نحاسية تدحرج بلا وعي في حدود الدرج.
تبدو زاهدة بالزينة، إذ تكتفي ببعض الكحل الذي يخفي انتفاخ جفنيها بعد سهر طويل، واستيقاظ في ساعة مبكرة هذا الصباح، في حدود وجهها ترى لمعانا واضحا تحت أشعة الشمس المتسللة من النافذة، فقد كان عليها أن تهتم ألا تترك الشمس بصمتها في وجهها فتزيده احمرارا.
تجاوزت الممر ملقية الكثير من التحيات الصباحية على زملائها، لم تكن واثقة أنها نظرت في وجوههم، فقد احتمت بزجاج نظارتها السوداء، وتجاوزت الوجوه  داخلة إلى مكتبها.
بين فنجان قهوتها وصدى ارتباك الأوراق فوق مكتبها، قلبت الصفحات الإخبارية في حاسوبها، التفتت للكثير من العناوين والأخبار، الكثير من الموت المبعثر في الطرقات، قرأت الصفحات بحرص، تتبعت صدى أمس واليوم، وتأملت الغد فقد كان عليها أن تكتب مقالها الأسبوعي الخاص.
تتلاحق الكلمات سريعة تحمل النغمة ذاتها، الدفق المشتت نفسه يتأرجح بين الحروف، وهي البلاد أوراق تتفتح دوما بما لا تدرك، وتضعك أمام ما لم تتوقعه، هي دائما الرواية التي يصعب التكهن بصفحتها اللاحقة. تنفست كل هذا وكتمت صوت محلل سياسي يكرر كلامه للمرة الألف خلف نفس الطاولة.
حبست أنفاسها، وأسقطت القلم من بين أصابعها، لا تدرك تماما كيف تزحلق، كأنها غابت عن روح المكان. لم تلحظ مرور أبي عمر، ذاك الرجل الذي يمضغ الكثير من الكلمات ويطلقها معا سريعة مندفعة وتلقائية إلى حد يصعب فيه التركيز في فكرة واحدة، رغم أن المكان يصبح أكثر تلقائية بمروره.مر أمامها ولم تلحظه، ترك على مكتبها بعض الأوراق، وحمل معه قهوتها الباردة في طريق خروجه .
أرخت كفيها عن الطاولة، التفتت بضع خطوات ووقف خلف النافذة، كان زجاج النافذة مواربا، لم يكن مفتوحا تماما فيتسلل الهواء الساخن فيترك بصمته في شعرها الكستنائي المنسدل على كتفها، بدا زجاج النافذة مفتوحا بمساحة تسمح لما تبقى من عتمة النافذة لتكون مرآة تهرب فيها من تفاصيل وجهها، رفعت ذراعيها وجمعت خصلات شعرها القصيرة بين كفيها، شدتها بعنف، وراحت تدفع نفسها إلى تأمل الشارع، الإصغاء لصوته، لصراخه، سماع شدوه، وتأمل ارتباكه.
يعيش الشارع حياته كل صباح، يعتاد شخوصه العابرين، يعرف رائحة عطرهم، يشمها إذ يأتونه من بعيد، ويستعد مبتسما لهم، يسمع نبض أقدامهم العجلة في الصباح يتسارع وقعها وعيونهم تخطف الأنظار إلى ساعات في أيديهم، تختلف طرقهم، ينظر أحدهم في عداد سيارته وقد تأمل الوقت مفتشا عن مساحة يقف فيها أمام محطة وقود، وآخر يطلق أبواق سيارته متذمرا متعجلا.
من خلف نافذتها يبدو الشارع هادئا الآن، المتجر في الزاوية البعيدة في بداية الشارع لا زال يعلق ألعاب الأطفال على بابه ويحتل شيئا كثيرا من مساحة الرصيف عارضا الألعاب، وفي ركن هادئ متجر للعطور منزوي المدخل، لا تكاد تراه
إذ تمر سريعا، وكان المحل يـأتي منسجما مع نوع خاص من الزبائن مرهفي الإحساس، دقيقي النظر، وفي كل الصخب لا تسمع له سوى رائحة العطر، فلا يرهق نفسه بأرجحة بضاعته في عيون المارة.  
في صورة هذا الشارع لم تر إلا الزاوية القريبة المقابلة لها. وقفت طويلا كأنها تفتش فيها عن شيء ما، في هذا الوقت من النهار لن تستطيع سماع صوت ماكينة الخياطة، صوت النهار الصاخب يسرق منها الكثير من صخبها، أما هي فلا تسقط من ذاكرتها اليوم الأول الذي أتت فيه إلى الحي، كان صباحا صيفيا أيضا، إلا أنه أقل حرا.لا زالت تذكر كيف أبدى الخياط رأيه بزيها بتلك التلقائية والسلاسة:" كأنك تبالغين في قتامة الألوان، زيك رسمي جدا، بهذا السواد المعتم." استغربت كثيرا كلماته، مضغتها بصعوبة ذاك النهار، وتجاوزته.
على مساحة ثلاثة أعوام، اكتشفت ألوانا أخرى، وأقمشة أقل متانة وحدة، بدأت تقلص تلك الهوة بين الأوقات والأمكنة والمناسبات والأقمشة. كأنها مع الوقت أصغت لصوت ذلك العجوز الذي لم تتفحص وجهه، لم تتأمل عينيه، وما لاحظت ذلك الصدى الذي يرافق صوته. باستثناءات بسيطة صارت تتعامل ببساطة أكثر مع الأمكنة والأقمشة و صداها.
تأملت زيها المختلف هذا النهار ، وأطلقت ذراعيها باتساعهما، كأنها تستجمع دفقات الهواء إليها على قلتها، وعادت إلى أوراقها.قلبتها سريعا مدركة أنها لن تستطيع انجاز مقالها في هذه اللحظات. تركته جانبا وانشغلت بإعداد بعض الأخبار اليومية التي تتشابه في خطوطها، افتتاح هنا، واختتام لأعمال مؤتمر هناك، رتبتها بذلك البطء الذي يسمح للوقت أن يمر فوق مكتبها بسلاسة.
حملت حقيبتها السوداء الصغيرة وأعدت نفسها للخروج، فهي تعي الآن أن ما تفكر بكتابته يبدأ من الشارع، فإن قراءة الواقع من زاوية الجيل الشاب عليه أن يبدأ من عيونهم وليس من خلف النوافذ. قلبت الشوارع واحتملت ضغطا على أطراف أصابعها، فهي لا تحتمل أن تبدو أقصر مما هي عليه الآن بهذا الحذاء. بنطالها الملون الواسع يتأرجح بين دفتي هواء ساخن، وتضم حقيبتها إلى قماش قميصها الأسود الناعم، مصغية إلى ما تسمعه من العابرين في الشارع، بعضهم يتحدث عن طموح لا زال يحلم بتحقيقه، و آخر يشكو حظا سيئا وقف حائلا بينه وبين ما أراد، وعلى مسافة منها ترى أصدقاء يجلسون لا تلمح وجوههم، لكن حديثا سياسيا شائكا يتدحرج بين شفاههم راسما غضبا في معالمهم.
تابعت سيرها وقد صارت أقرب إلى منزلها، في الشرفة سيدة تجمع قطع الغسيل المعلقة على الحبل، وصبية تسير وصديقتها ولا يشغلها أكثر من انسجام شالها ووجهها والأقمشة.
في منزلها حاولت أن تخلع عنها كل القلق والارتباك. قضت وقتا لم تشغل فيه بالها بالكثير، استعادت في مرآتها صورتها التي تحب، رددت أمام المرآة كلماتها الساذجة العابثة، كانت بلا حكمة  لم تفكر كثيرا، ارتدت فستانا تتزحلق في عتبته الألوان كلها، واستمتعت لدقائق ببصمتها الخاصة وإن كانت عابثة.
في عتبة المساء استقبلت رسالة تحمل مقالا طويلا، تصفحت بريدها الإلكتروني قبل أن تبدأ بقراءة المقال، في كلماته قرأت أكثر من حروف، سرحت كثيرا في السطور، تحدث مطولا وبين سطوره رسم صورته، كأنه يحكي كيف اقتحم الشعر الأبيض رأسه، براقة صورته إذ يروي أيامه ثائرا غاضبا مشتتا لا جدران ترضيه فيسجن فيها نفسه، وتدحرجت على ذراعها قطرات ساخنة من عرقه إذ يثقل نفسه بالحلم، ويحلم أكثر بوطن، شجرة تين في فية منزل جده، والتين لا ينسى، التين يكبر وينتظر، اشتمت في بنطاله و قميصه روح عرق مسير طويل ترك أثره في ألوان صارت باهتة.
لم تكن تنتظر منه أكثر من مقال قصير تضمنه مقالها في محاولة لعكس توازن الرؤية بين جيلين، لكنه كتب كثيرا كأنه أراد أن يجيبها عن الكثير من صخب ليل أمس، أن يهدأ فيها ثورة  حادة لأنثى جميلة  كم تكره أن ترى فيمن تحب صورة للتخاذل.
هو رجل صنعته المراحل، لم يكن مرحليا يوما ما، لكنها المراحل وكل واحدة منها تركت فيه بصمتها، واعتقد في باب كل واحدة أنها لحظة الختام، المرفأ الذي يريد، والباب الأخير، لكن كل واحدة وعدت بأخرى، وشرعت شباكا صغيرا سربت منه شيئا من الضوء خلق مرحلة أخرى.كانت تلك العتمة المنصهرة من روح الشقاء من تشهق بالأمل وتكسر هوة صغيرة في الجدار ملتحمة بالنور الذي يخلق مرحلة أخرى.
رسمته كلماته في باب عودة ما، كأن العودة باغتته فنسي زيه العسكري المغبر معلقا على على حبل الغسيل في صحراء بعيدة. بدا أكثر نضارة وقد اختفت حرقة الشمس عن وجنته مرتديا بدلة رسمية سوداء قاتمة وحذاء لامعا، وربطة عنق حمراء حادة، وفي شفتيه رسم ابتسامة ما لا نكهة لها إلا أنها تتفق وزيه الجديد.
جاء صوته واضحا واثقا، إذ تحدث عن شبابه وحلمه بوطن، عن جسور مدها أو حاول عله يصل إليها، لم تكن أضغاث أحلام حين استرسل متحدثا عما يشبه الوطن في كل مكان، وعن وطن عاد إليه ليحلم بجسر آخر. كان يهمه أن يسجل بين كفيها صورة لرحلته التي كانت، إلا أنه اعتنى ببضع كلمات كتبها بخط أعرض ليجيب ثورتها الهادئة الحادة:" أما ربطة العنق فكانت حدثا طارئا، روح تناسب المكاتب الصامتة، والمقاعد السوداء الجلدية الفاخرة الواسعة، وأنظمة التكييف والتبريد التي ترفع ثقل تغير الطقس بين محيط ما اعتدت، وما صار علي أن أعتاد عليه.......... وأما أنت فكنت حدثا مختلفا، شيئا يشبه الوطن الذي حلمت شابا، والجسر الذي مددته يوما، والوطن الذي لا زلت أحلم."
هذا الصباح اختارت لنفسها مكانا آخر، وقد هدأ ارتباك قلمها، ورسمت حدود ما ستكتب، وقفت وسط المدينة تحتمي من حر الشمس بخيمة اعتصام، كانت الشمس تغير صورة أخيلة المعتصمين، وهي تقلص المسافة بينه وبينها فهو لا يرتدي ربطة عنق هذا النهار. 

تعليقات

المشاركات الشائعة