نسيج

                                  
                                 نسيج
                                                                                           

          غنى الليل صورتها جسدا منسلا من دفاتر عمره. تراقص عتمته موصدة أبواب ألم يكابد مشتعلا في قلبها. كم يبدو منتشيا بها إذ يلمحها تتصفح ذاكرتها. وتعيد ترتيب بعض الفناجين المهملة في زاوية باردة من زوايا مطبخها. يدها تنحدر مربتة فوق أوان زجاجية.
أحاطها الليل وشاحا إذ تأخذ زينتها في بابه متألقة برداء أسود لامع يحاصر خصرها، وينحدر تاركا لرياح المساء مساحة لأرجحته. ألقت بين جدران منزلها ألما. للمرايا المتناثرة في كل زاوية من زواياها أن ترسم تلك النظرة المستنكرة على وجهها.
     تسير بنشوة راسمة ابتسامة هادئة في حدود شفتيها. متحررة من قيد الوقت مصغية لصوته.تتأمل الطرقات جسدها مطلقا ذراعيه في امتداد فضاء واسع باحثا في صورة الطرقات عن طريق آخر لم يعشه.
تتنفس أمسها في كل رواق يتجاوزها. تصغي لوقعه في ذاكرتها للأمس صوت لا يخفت، جسد لا تمر فوقه السنين، تاركة بصمتها في ملامحه. هو ذاك تتأمله في كل زاوية، وهو لا زال مزدانا. غنى الأمس صورتها مؤمنة بحقها وربما احتياجه لحياة أحرى زمن آخر فرصة أخرى.
    تمر ببطء في أماكن لا زالت تذكرها. تبسم لها مستذكرة ذلك الدفق الروحي والحنين لصوت قلبها. وصوت الجدران تتهامس محتفية بصورتها. يتعثر مسيرها بين أكوام الحجارة الملقاة على الطرقات بعشوائية صبية رسموا الشارع ملعبا يرسمون على صفحته أوقاتهم. راحت عيونها تحيي كل مكان يبسم لها في صخبه وهي تصعدت الدرج متجاوزة سحب الدخان المتصاعدة من المقهى المجاور لمنزلها القديم. مرت محاولة ألا تصغي لإطراء رواده و أحاديثهم العابثة.
     أمام الباب وقفت مصغية لضجيج المكان وبساطته. أمسكت حقيبتها مستلة مفتاحها القديم. لا زالت تحتفظ به، وتحرص أن يكون رفيقها في كل مكان يعرفها. فكرت للحظات ؛ أتكون اليوم الضيفة وتترك لأناملها كسر مساحة هدوء هذا المساء على جرس منزلها، طامعة بتأمل ملامح الذهول والدهشة تغطي وجهه يراها ضيفته غير المتوقعة.
  بدت واثقة أنه هناك يجالس ذاكرته القديمة. وينفي نفسه عن كل التفاصيل اليومية التي اعتادته. يهجر عمله. يترك تعاقب الوقت. وينفث سحب الدخان يملأ كونه بها، مغيبا روحه يعيدا حريصا أن تتوه معالم وجهه في أصداء دخان متصاعد. علها تعجز عن ملاحقة أنامله كفيه، ذراعيه، وقدميه.
      تأملت مفتاحها. واختارت ألا تثقل وجهه بالحيرة. و ألا تعكر ذاكرة الحنين في زوايا منزلها. فتحت باب منزلها متجاوزة أماكنها.
      هو المكان ذاته. يعرفها تماما لكنه ينكر حضورها فيه الآن. يتأملها بحرقة تقتحم عوالم كانت لها. وهو يجلس في ركن ما مشغولا بنسج حكاية عابرة جديدة. لم تكن الصورة التي يعود محموما بها بعد كل موجة انفعال هائج صاخب يهديه لها. محطما كل وزواياها هاويا بثقله وصخبه وصراخه على جسدها، أيامها، وذاكرتها. ليست الصورة  التي ويرسمها هو المكان ذاته؛ لكنه بات بلا ذاكرة.  
     حزمت عواصف الدهشة المتراكمة في صفحة وجهها. وأوصدت الباب خلفها راحلة. تطبق جدران المكان على كتفيها. تنحني تفاصيل وجهها نائمة بين أمواج شعرها الأسود المتأرجح في عتمتها. تقرأ الطرقات صورتها ذاهلة هذه المرة. تبصر في ملامحها ذلك التقلب الذي يصعب للحظات  هشة ضئيلة أن تتركه. تمعن الطرقات النظر في وجهها تسير مطبقة على حقيبة سوداء بين كفيها.  
        قاومت رغبة جامحة بالصراخ. لا تدرك الآن تلك الروح التي كبلتها ذلك العجز الذي راودها، وهي تراه يغزل أنسجة واهية يسلي بها ليله. يغني على أنغام ضحكات امرأة تائهة، وتراه يعيش تفاصيل اجتياح عابر جديد. لا تعرف أي قوة تلك التي شلت حواسها وهي تراه يصفع كل ذاكرة زرعاها معا. استنشقت أطياف ألم جديد غارقة في متون خيبة مكبلة بالصمت. وهي تراه يلهو شبقا بدميته الجديدة.
    خرجت متثاقلة تبتلع بحذائها الأسود صخب الطرقات المتماهي مع أنينها. وقد صار منزلها بلا ذاكرة. مر وقت طويل دون أن تعي أن منزلها لم يكن إلا مشجبا أصما لمحارب مهزوم يأتيه معلقا عليه ما تبقى من خيباته وانكساراته، بعد أن يلون جسدها بأطياف وانفعاله وارتباكه.
   ترحل عن أماكنه هذه المرة. تهجر كل لحظاته ملقية عن حقيبتها ثقل ذلك المفتاح.





     

تعليقات

المشاركات الشائعة