ايقاع


                                             ايقاع

      كان وجهها سارحا في الغياب حين ارتفع صوت هاتفها بالرنين. هو صوته واثقة من ذلك. مر وقت طويل لم يطرق فيه أبواب أذنيها، لكنه صوته هي واثقة. ليست إلا بضع كلمات قالها دون أن ينتظر منها إجابة ما. وكم تشكر دكتاتوريته إذ رفع عنها عبء إجابة يثق بها.
   طافت اروقتها كلها. أعادت على كرسيها كلماته. تأكدت أن الطاولة، والنوافذ والأبواب والأضواء والستائر سمعت ما قاله. أسرت لمساحيقها, وخزانتها، وسريرها بحروفه. سارت إلى المطبخ تقرأ على أوانيها وفناجينها:" قال لي ألا أحدق في عقارب الساعة. أن أغفو ليجد لنفسه مساحة في حلمي. قال انه سيأتي ويوقظني في الثامنة مساء".
     لا تدرك الكثير مما تحس به الآن. نظرت في المرآة تتأمل ابتسامة تغزو وجهها. لا تعرف أي سطوة تحفل بها حروفه. لا تكترث بالبحث عن تفسير ما؛ فقد آمنت انها تحتاج عمرا لتعيش إحساسها، وعمرا آخر تحاول فيه فهم ارتباكها، وشوقها، وحنينها.
      تمر اللحظات متتابعة إلى حد نفقد فيه احساسنا بها. تبدو بلا معنى، بلا روح. تسجل حضورها في روحنا وتمضي. تهذي إذ تحدث ساعتها: " قال ألا أحدق فيك؛ لكني سأعيش اللحظة تامة. فترقبنا للحظات. انتظارنا لأشياء عادية جدا بشغف يجعلها مذهلة."
        كانت قد فرغت من ترتيب عشوائية منزلها منذ وقت قصير. لكنه الآن لا يعجبها. لا تجده متألقا. تشعر بروحه ساكنة هادئة. عقارب الساعة تدور في ذهنها. وهي تقلب الأرض تحت قدميها.
     باهتة هي ستائرها البنية، ستكون الفضية أكثر دفء. لم يعد يعجبها ذلك اللون الكستنائي الذي يفترش سجادتها. فقد وجدت تمازج خيوط اللون الأحمر يكسره طيف أسود باهت مساحة صخب جديدة تناسب روحها الآن أكثر.
     على غفلة من الوقت أخفت كل تحفها الخشبية المعتقة. أسكنت كل واحدة منها ذاكرة لم تعد الآن تحتاجها. تأملت زواياها وقد صارت عارية من كل تحفة اعتادتها. ابتسمت للحظتها الجديدة:" ستتألقين أكثر بأوان زجاجية شفافة حينا، موشحة ببعض الألوان حينا آخر."
     مضى كثير من الوقت. لم يعد منزلها يشبه ذاك الذي تحبسه في الصور. كتب لم تسمع الجدران صوت تتابع صفحاتها باتت تسكن مكتبتها. موسيقى صاخبة تدوي في أروقتها الهادئة.وهي في ركن غرفتها تتصفح فساتينها. تجربها. تقف بكامل زينتها؛ ثم تعود ثانية تنزعها عن نفسها، وتجرب آخر. وقت مضى كثير من الوقت.
    هي الآن حقا تسمع صوته. هي الآن كما أرادها هذا الصباح. لم تعد تحدق في عقارب الساعة؛  لكنه الوقت يحدق في صورتها المترددة. تقلب الأقمشة والألوان فوق جسدها؛ وتغير زينة وجهها في باب كل فستان ترتديه. تبدل حذاءها ولا تغفل الاهتمام بتصفيف شعرها بما يناسب ياقة الفستان في كل مرة.
     يمضي الوقت وصورة ظلها تختلف مع كل دقيقة تمضي. وظلها يحدق في وجهها تارة . ويتأمل امتداد شعرها تارة أخرى.
     أعدت قهوتها دون سكر اليوم. إذ يحبها خالية من السكر. وتجاهلت ذوقها الخاص إذ تفضلها بقليل من السكر. أيقظت بعض الفناجين البيضاء اتشاركها لحظتها. فهو يحب أن يلحظ ذلك الحضور الصاخب لقهوته في مساحة بيضاء.
     بردت قهوتها. وملت جدران المطبخ صورتها إذ تعيد تسخين ركوتها مرارا.
     يحدق بها الوقت وقد بهتت. وألقت عن وجهها كل زينة. واكتفت برداء نوم خافت. رفعت عن جدرانها صخب تلك الموسيقى. أسدلت ستائر نافذتها التي بدت منسجمة وردائها.
    كان وجهها سارحا في الغياب، حين كسر سكون مسائها بقرع جرس منزلها. على مسافة منه هي كما كانا دوما. تقف خلف الباب ساكنة هامدة. ويقف أمام الباب يكسر سكون مسائها حينا إذ يقرع الجرس.
      



تعليقات

المشاركات الشائعة