كبرياء

كبرياء

يحدث في الأغوار أن تعيش التناقض حالة يومية، فاطمة كانت تسمع وشوشات الجيران في طريق ذهابها وإيابها إلى الجمعية النسوية للفنون الشعبية، ورغم أنها تحب حياكة الخيوط، وإعداد الأطعمة الفلسطينية والنقوش، إلا أنها لم تكن قادرة على تجاوز محيطها، جيرانها،نساء الحي، وهم يحدقون بها، ويجدون في هذا النشاط عملا عابثا لا قيمة له. كانت ترى في خيوطها أوانيها الزجاجية وكعكها التقليدي شيئا ثمينا، لكن كان عليها أن تصغي لصوت الجوار.

  فاطمة تنتظر اليوم  سيارة سمسار تستقلها من تجمع سكاني مجاور، يأتي مع ساعات الفجر ويطوف بين البيوت والخيام، يجمع النساء والأطفال والرجال، ويصطحبهم للعمل في مستوطنة الحمرا، الصباح مكان ساكن لا صوت له، هكذا تخرج دون أن تحتك بأصوات الجارات، وتتجاوز طريقا طويلا لتصل إلى مستوطنة اسرائيلية، تصطف فاطمة بين عدد كبير من النساء، يقف حارس المستوطنة يدقق في التصاريح والبطاقات لوقت طويل، وهي تحاول التسلل دون أن يلحظ مرورها، إذ لا تملك تصريحا، يقتلها هذا الانتظار كل صباح، وجه الحارس، وسياج المستوطنة، بوابتها، كم يصعب عليها العمل خلف سياج مستوطنة ترى في ترابها صورا لفلاحين فلسطينيين، لمزارعين من الأغوار، هذه الأرض لهم، هذا التراب لهم، كل المكان لهم، وكم هو قاس أن تنتظر وتتسلل لتدخل المستوطنة، لكنها تحتاج العمل لتحصل على أجر زهيد تستطيع به متابعة دراستها الجامعية .

تركت الحارس منشغلا بتدقيق أوراق سيدة حامل مرهقة وتسللت إلى الداخل، قضت يوما شاقا من العمل تقطف ثمار التين وتردد في كل مرة:" هذه الأرض لي، هذه السماء لي." كانت فاطمة تجمع التين وتتذكر أن عليها العودة عصرا لتتابع دراستها قبل حلول الظلام، حين جاء صوت سعدية كانت تصرخ، وقد أوجعتها آلام المخاض، تركت حبات التين تسقط أرضا، وأسرعت إليها، كانت سعدية تتألم ، وفاطمة تعلم أن سيارة الإسعاف الوحيدة المتوفرة ستحتاج وقتا طويلا لتصل، وأن عليها أن تدفع مبلغا كبيرا من المال لا تملكه كليتيهما، إذ لا  مستشفى وعيادات قريبة من المكان، فهنا لا يمكنك ان تشيد شيئا ما دمت فلسطينيا سوى الحلم، والكثير من التحدي والصمود والبقاء.


اتصلت بسيارة تقلها إلى المستشفى في نابلس، هكذا يصبح وقت الانتظار صعبا، وتصيح الحواجز المنتشرة بعبثية في الأغوار أقسى، الجنود لا يلقون بالا لصراخها، هكذا تولد الطفلة بين مدينتين، روحا تعتنق التحدي: " اسمها كبرياء، تعرف أن المكان قاس، وأنها لن تجد مكانا تنام فيه في غرفة صغيرة تزدحم بأمها وأبيها وإخوتها، وأخواتها، تعلم أن لا عيادة صحية ولا طبيب ينجدها إذا تعبت في ساعة متأخرة من المساء، لكنها ستكبر هنا، ستحلم هنا، وستبقى هنا حالة من الكبرياء.    

تعليقات

المشاركات الشائعة