صور

صور

التقيا في لحظة قدرية .جمعهما مكان واحد، وراعيا مسافة بضع طاولات تفصلهما كما كان لسنوات واختلاف وارتباك أن يبعثرهما كل في ركنه وخلف ترسه. ترقبه من بعيد وقد كان لها أن قلبت وإياه بعض صفحات أحبت أن تسميها حبا. أما هو ففتش في طفولتها عن سبل لحكاية أخرى.أحب ايقاع صوته المجعد على ذهنها الغض. وتأمل علامات الدهشة تقف في حدود وجهها. دهشة لم يكن لزوجته أن تهديه إياها. هي التي مضغت حكاياته مرارا وشاركته اكثرها.   
       يطبق التعب فوق ذهنه. مرهقا تتيه تفاصيله السمراء في عشوائية زبائن يرتادون المقهى ملقين كاهلهم صخب النهار.منشغلين بأحاديث عبثية وضحكات تضرب جدران المكان. وهو يلوذ بصمته مصغيا لأحاديث تجاعيده.
تبدو المدينة حوله محتفية بطقوس انتظار جديد. يتذكر زوجته الآن. كانا يطالعان الشارع من خلف النافذة ويجددان نذور الانتظار. ويحب كثيرا ان يرى حبها في كامل زينته،فيقرأ على مسامعها حكايته التي كانت دون أن تعي جزء منها.
لم تتفتح لغته يومها على أبجدية القتل والترهيب. عاش أصداء ارتباك أسرته، حيه، بلدته، دون أن يعي اللحظة تماما. عاش عزلته الطفولية بين ذراعي أمه. حرصت في كل هجوم صاخب أن تبني له من ذراعيها ترسا، ترد عنه صوت الرصاص و أطياف الخوف.
رآها تشد وثاق أشيائها الثمينة التي يعي كم يصعب عليها أن تخلفها. تترك للجدران وحدة تقتلها. رآها تهجر حديقتها، أشجارها التي تنتظر لحظة القطاف. لم تسقها اليوم ماء عاتبة هي الأشجار اليوم. وهو يطالع وجه أمه الأسمر لم يعاتبها، لكنه فتش في صمتها عن تفسير ما.
لا تكاد تلك الصورة تغيب عن مخيلته.سار حافي القدمين تحت شمس صاخبة، يحيطه الكثير من أهالي البلدة، يسيرون معا يبحثون عن وجهة ما. فتش في فضاء ذلك الألم، عن روحه، طفولته. التفت إليها تسير إلى جانبه، نظر إليها طويلا، مشدوها. هي تسير إلى جانبه. تلك الطفلة المدللة التي لم يكن يملك الجرأة لدخول فناء منزلها. تسير إلى جانبه . فرك عينيه مرارا قبل أن يحث كفه على التقدم أكثر.
يحب كثيرا ان يسرد تلك اللحظة محتفيا بنصره في ظل هزيمة البلاد. يمكنه الآن أن يجاذبها أطراف حديث ما. ويشد معها وتد الخيمة. ويراها تكبر امامه. تكبر خيمتهما بيوتا في ارض ليست لهم.
هي حكايتيهما واليوم لا يسردها مسندا ذراعيه إلى كتفها ناظرا من خلف نافذته إلى صخب احتفالي تدوي به المدينة. هي حكايتهما وكم صار صعبا عليه أن يتقاسمها مع صديقة عابرة.قلب وجهها ترقبه عى مسافة طاولات؛ وعاد متدثرا بذكرى زوجته  وحيدا وقدحاك  لها وشاح أبدية إذ دثرها بقبر منذ أيام، واسكنها قلبه وحسب.
هو مشغول بحكاية لم يعد يجد من يرويها له. هي على مسافة منه. تشهق تعبا مثقلة بنهار حافل بالكثير تحت شمس حادة الملامح. تنثر بعض الأوراق والملصقات أمامها. دثرها بنظرات مخذولة إذ يرى حرارة الطقس تمتد إليها. فتلقي عن عنقها خطوط كوفية كانت تعانق تفاصيلها العملية وملامح انشغالها المدروسة.
تأملها واعيا اليوم أنه لم يحبها أبدا. لكنه رأى فيها صورة تشفي رغبته في سرد حكايته لصبية تتابع ارتباكه وانفعاله، وتذكره لأدق التفاصيل. تمنى كثيرا لو أن له طفلا يستند في ليله على صدره. ويسمعه يروي حكايته ولا يمل سماعها. لكنه تذكر كلمات زوجته وانحنائه لرغبتها. فقد كانت دوما على حق. يحترم حدتها إذ تعلن بعنف :" انا ابنة الذاكرة، ابنة ما تبقى من صور، أما هو فماذا تراه يحمل، أنتركه يحمل اشلاء صورنا المبعثرة وأشباه حالة انتماء ."
  حملت أوراقها وملصقاتها. غادرت المكان. رحلت وقد صار يعرف انه لم يعد يستمتع بملامحها تتابع تأرجح صوت الذاكرة بين انفاسه.



تعليقات

المشاركات الشائعة