حلم

حلم

هي لحظات الصباح الأولى تتسلل في ثنايا زجاج نافذته، وتراقص أقمشة الستائر، تؤرجحها بين دفتي الريح لترسم تلك الموسيقى التي صمت المكان، وتبدد وحدته وتخرج روحه من صومعة يزهد فيها بنور الصباح، أرخى جسده متثاقلا على السرير، وأطلق لعينيه أفقا من حلم، سارحا في وجهها، وابتسامة دافئة ترسمها كل صباح فتنسيه عشقه للموسيقى.
مر بيديه على غطاء السرير،باردا كان، باهت اللون، صوته خافت، وموسيقاه متشظية. هي لم تعد هنا، هي لم تكن هنا أمس، صباح هذا اليوم يذكرها بعنف لم يعتده في نفسه، لا يعرف أي روح في الوقت، أي موسيقى في الذاكرة تدفع بها إليه اليوم، وقد مر عهد لم يكونا فيه معا، وكم نظر في مرآته مفاخرا نفسه بتجاوزها.
اخترقت مساحة حلمه، كانت تغزل خيوط الصوف ثوبا أحمر يناسب طفلتها، وتسلي خيوطها بأغنيات وأهازيج تؤنس بها روحها. لم تكن تطالع وجهه، لكنه صوتها لا زال بكامل ألقه الذي يعرف، وهي ذات الابتسامة الهادئة التي حطت فوق جفونها الناعسة لتوقظه هذا الصباح متأملا صورتها في نفسه، وصورة له في روحها.
رفع عن نفسه روح هذا الصباح هاربا من نفسه من أحلامه، من صورتها، وأعد نفسه ليوم مشغول بمهام كثيرة، ووجوه من المتدربين طاف بينهم، لم يبد مهتما بنقل تجربة ما إليهم ، قلب صورهم أمامه هاربا من روحه، وباحثا في الوجوه عن صورتها تنفض الغبار عن سجادتها الصغيرة الملونة بأطياف متداخلة من الألوان، أحبت دائما ذلك الصخب الذي يتركه اللون في النفس، تنكرت كثيرا بألوان صاخبة يصعب أن تجتمع معا، أحبها مختلفة لها صوتها الخاص وإطلالة لا يراها في غيرها، حاول كثيرا رسم صورة تشبهها في أفلامه، اقترب منها كثيرا، ولم يرسمها تماما. يفتقدها اليوم كثيرا، وقد اعتاد غيابها، لكنها تجتاحه اليوم بكبرياء يراها طيفا في كل مكان لا يتوقع أن يراها فيه.

ظل مسكونا بحلمه هذا النهار، ظلت تسكنه يسمع صوتها في زواياه، في تفاصيله الاعتيادية. هذا المساء هرب من أصدقائه، من أحاديثهم الصاخبة وزج بنفسه غريبا في أماكن لم تعهد وجهه. تسللت روحه طارقة صومعة شعراء مسحوقين تنشد عيونهم جمهورا لن يأتي. أما هو فقد جاء محتميا بآلة التصوير، وادعى بعزمه الإعداد لفيلم قصير يسجل لأصوات شعراء لهم نكهة مختلفة حين طالعته بسمة شاب جاء إليه مرحبا وبدا سعيدا بحضوره في المكان، أما هو فلم يحفل بكل هذا الصخب، فقد جاء مفتشا عنها بين حضور خافت كان له أن تصفح وجوههم جميعا على مهل و تأمل روحهم وتفاصيلهم. لم تكن هنا. هو لا ينسى كيف كانت تهرب من زمجرته وصراخه العابث وتخبط روحه إلى حلقات أدبية تائهة، وتبتسم روحها في نهاية المساء فكلاهما كان يفتش عن روح لم يجدها.
غادر المكان كاسرا تراتيل الشعر ، هي لم تكن هناك، وربما لم تعد ترتاد هذه الأماكن منذ اختبرت الرحيل عنه. يعي اليوم أنها لم تغادره، لكنها رحلت مخلفة جدران قلبه يعصف الريح فيها صدى، وذاكرة لا ترسمه إلا كائنا بتفاصيل مغتربة وروح مشوهة. يقف في أعتاب اللغة مدركا أننا نغادر بشكل يومي أماكن كثيرة وتظل روحنا تسمو في سماء الذاكرة.
أوقف سيارته تعايش سكونا ما،  ومضى ترافقه أضواء الشوارع وشواهدها، يتأمل فيها ملصقات كان ابتدعها بنفسه، وإعلانات أنجزها منذ أيام، وصور لا زال يظن أنه كان قادرا على إنجازها بشكل أفضل مما هي عليه الآن. سار في الشارع مفتشا عن وجهها الهادئ،يطوي ذراعيه أحيانا مهدئا صوت قلبه، ويطلقهما حينا آخر مفتشا عن حرية ما من طيفها.يتجاوزه الكثير من العابرين الذين يطلقون تحياتهم معبقة بالكثير، قتلك تبتسم مستذكرة وميض حب أنار به قلبها للحظات، وتلك تهديه تحيتها وقد أيقنت أن أبجديته عابقة بحروف أنانية. لم يبد مهتما بكل الوجوه المتلاحقة أمامه وكل الأصوات المتراكمة في مساحاته، نفث دخان سجائر كثيرة غيبت ملامح وجهه وتفاصيله عن الطريق.
خجولة تفاصيله اليوم، فقد طويا هذه الشوارع معا مرارا إذ اعتنقا فكرة مجنونة بحثا فيها عن عالم يشبههما. واليوم يطويها وحده، توقظه من حلمه ولا يجدها أمامه، تتزين كلمات الصباح ومفرداته بين شفتيها.
عاد يعايش تفاصيل مشاهد عليه انجازها، يجمعها حكاية يملك بأنامله رسم نهاية لها، يصنع الكثير برؤيا عينيه، لكنها الحكاية التي أضاعها، وحلمه الذي لم يعد يلتقي به، صفحته الهاربة من مساحات حبره، لن يغازل خصلات شعرها، لن يسمح بيديه دموعا زرعها على وجنتها، وهي لا زالت تغزل الصوف بين كفيها ثوبا لطفلة لم يتفتح عمرها بعد على أحلام بعيدة عن مساحات بعيدة عن مساحات العتمة، وتحاكي شفتيها أغنيات تسلي بها وحدة طفلة لم تكن يوما هنا.


تعليقات

المشاركات الشائعة