نحت

نحت
ترتب مساحات من الإعياء خلف نافذتها، وبين جدرانها الباردة، تنفض عن وسادتها طيف جسد مسكون بالقلق، ترتب مفرش السرير، وتعتني بتلك المسافة الضيقة بين وسادتين، تتركها على استقامة لا تكسر رتابة المكان، وجدرانه العارية من كل التفاصيل،إلا بعض نقاط الإضاءة، وبرواز ذي إطار شاحب، تبتسم له بفتور كل صباح، وهي ترى نفسها في زي الزفاف، وتمضي لترتب بعض الزوايا القليلة الأخرى في منزلها.
اعتادت أن تشعل البيت صخبا لتخرجه من هدوئه الصباحي، إذ تدير المذياع أحيانا، وتسمع غير مصغية لبرامج الصباح، و أحيانا أخرى تمسك بين يديها مؤشر التلفاز وتقلب محطاته الواحدة بعد الأخرى، إلا أنها الألوان، البذخ الصاخب في إدارة الصورة، ترف زائف في ديكورات المكان، ألوان مبعثرة، لا تشبه الاتساق الذي تجده في منزلها، إذ تتفق زواياه باحتشام بين لونين أو ثلاثة في حالة شغب مفرط.
على مسافة قليلة من هدير المذياع في بهو المنزل، غرفة صغيرة تعيش عزلتها بألوان دافئة، الغرفة الوحيدة التي سرت عقد الاحتشام والرتابة، غرفة ابنها الصغير ، التي اعتدتها جدته لتناسب حفيدها الأول بلون أزرق يظهر بدرجاته المتنوعة بين طلاء الحائط، لون الخزانة، أقمشة الستائر، وقطع الألعاب، ولون السرير، والأغطية، والمفرش، والسجادة، الصور والبراويز.


تقترب من خزانته، ترتب بعض ثيابه، و أحذيته، نعم، الآن لم تعد كلها زرقاء تماما، فقد كبر، صار يذهب إلى الروضة ، وصارت أمه تختار له ملابس بألوان أقل صخب، لا تختلف كثيرا عن روح منزلها.
في روح السكون تلك روح أخرى استيقظت فيها، إذ سمعت في أخبار الصباح الهادرة عن استعداد الجهات الأمنية لاستقبال جثامين عدد من شهداء الانتفاضة الشعبية المحتجزة لدى الاحتلال،تابعت المذيعة تتحدث حول التحضيرات، الأسماء، المدن، أما هي فقد أحست روحا أخرى تستيقظ في جسدها الذي بات بركانا خامدا، ( مالك) سمعت اسمه بين عدد آخر لم تلتفت روحها إليهم، سيعود إذن، سنتشارك معا الطريق إلى قبر أعدته له العائلة منذ سنوات، ستهديه المحبة، وكثيرا من الدموع.
هي تحب طريقا أخرى تتشارك بها معه، تشاركا الطريق إلى الروضة أطفالا يسيرون على  مهل، ويحس مالك نفسه أكبر قليلا كلما ضايقها ولد آخر مطلقا تعقيبا ساخرا: ( الفراشة على شعرك مضحكة)، فيضربه، وهي ذات الطريق التي سارا بها معا إلى المدرسة، قبل أن يكبر حقا، ويمشي مالك في الزاوية الأخرى برفقة بعض أولاد الحي.
لم يبد مالك معجبا بتلك الطريق على مسافة منها، يهديها بعض النضرات على قلق واستحياء، رمى حقيبته بعيدا، أهمل جرس المدرسة، وذهب يفتش لنفسه عن عمر آخر، مستقبل آخر، ليعمل خياطا، أنفق الكثير من الوقت، أتلف الكثير من الأقمشة، لكنها حين أتته بكامل روحها، تحمل بعض الثياب التي تعدها لتناسب حفل تخرجها من الثانوية، اهتمت أن تحدثه بدقة، فهذا الفستان تريده أضيق قليلا، و أقصر بعض الشيء، وذلك الوشاح تحب أن يكون أكثر انسدالا. 
تذكر كيف ابتسم لدقة حديثها، وأبدى إعجابه بذوقها الخاص في اختيار الألوان المناسبة اللامعة الدافئة معا، وضع الثياب جانبا، وطلب إليها أن تعود غدا لتأخذ ثيابها، كانت المرة الأولى التي ترتسم الدهشة على وجهها أمامه، وهي تقلب فستانها وتتفحص طوله الجديد،دققت في ياقة الفستان بينما جاء صوت مالك:( رأيت أن ياقة الفستان ستكون أكثر جمالا حين تكون مدورة تكشف عن هذه المسافة بين العنق والصدر.) أجست رجفة مفاجئة في جسدها إذ مر بإصبعه في حدود عنقها باتجاه تجويف صغير في حدود رقبتها.
صارت تحمل إليه فساتينها، وتنانيرها، ولا تقول الكثير، تقرأ في عيونه بعض الكلمات، وتسرق لنفسها بعض الحروف من شفتيه، أما هو فكان ينحت جسدها على الأقمشة، يرسمها تماما، يعانق الأقمشة وينتظر أن تعود إليه فيحتضن بسمتها.
مالك صار يسكن الغياب، لا تحب أن تذكر الكثير عن ذلك اليوم، كانت قد أنهت أداء امتحانها الجامعي الأخير لهذا الفصل، حين سمعت صوت الإذاعة يهدر بحادث قتل تعرض له شاب على حاجز عسكري، لا زالت تهذي كلما تذكرته:( لم يكن يحمل أكثر من فستان أخاطه لي معتنيا بياقة مدورة مكشوفة، زينها بكثير من الإكسسوارات، ولا بد أن بعضها أفلت منه فراح يفتش عنها قبل أن يسرقه الغياب بعيدا.)
لا زالت تهذي به إذ عاد ابنها إلى البيت، تركها تنهي ا تطهو من طعام، و أخذ لنفسه بعض السكاكر والحلويات، وعاد إلى غرفته. يمر الكثير من الوقت، وكم تتمنى لو أنها تستطيع أن تمارس حزنها الخاص دون أن تراعي احتشام الأماكن والأشخاص حولها، دون أن تهتم بالمتاح، والممكن، لكنها هذا المساء عادت تمارس رتابتها المعتادة، تسخن الطعام لزوجها، تقدمه دون أن تلتفت إليه، وتعود لترتيب المطبخ ، بينما تسمعه يقول: ( طعامك مالح اليوم كثيرا.)

  

تعليقات

المشاركات الشائعة