استثناء

استثناء

يرسم الألم في تفاصيلها تحد جديد هذا النهار، تبدو مختلفة أمام مرآتها، وقد أهملت كل الفساتين الداكنة الطويلة التي كان يختارها لها، بما يناسب تلك الذائقة الرفيعة التي بناها في سنوات شتاته المرتبكة،فقد بنى ذائقة ثابتة محددة خلال تقلبه بين مكان و آخر، بين شتات و آخر، لا زالت تذكر كيف احتوى روحها المشاغبة حين قدم لها بعض الهدايا، ترك بطاقاته تتحدث فوق كل قطعة، ( ستكون وقفتك أكثر جمالا وارتقاء بهذا الكعب العالي)،( قطع الملابس الكثيرة تحدث صخبا في المظهر، لكنها لا تحدث صخبا في النفس)، ترك هذه البطاقة فوق فستان أسود ضيق طويل، بنهاية مفتوحة قليلا حول الصدر،ترك عبارات أخرى فوق زجاجة العطر، الحقيبة، الإكسسوارات اللامعة، اعتنى بكل تفاصيلها، وعندما وجد في روحها ذلك الشغب، تلك الروح التي ترفض تبديل ملامح هويتها، التفاصيل التي اعتادتها، مظهرها، شغب روحها كان صاخبا، شكرته اعتناءه بتفاصيلها، كلماته فوق كل بطاقة، (عطرك صوت الحب، اعتني به)، لكنها لم تحب تلك السطوة، ذلك التغيير الذي أراده فيها.
تأمل عدوان صورتها المشاغبة الرافضة، ابتسم وتذكر روحه شابا صاخبا، اقترب منها بذلك الوعي الكامن في روح نفسه،هو أيضا كان يحب مظهره العملي العفوي شابا هاربا في سفوح الجبال، متخفيا بين جدران كهوف معتمة،ابتسم لها متأملا روحها التي تشبهه:( أحيانا نفعل أشياء لا نريدها،لم أكن أريد مغادرة الأردن، لكن المرحلة أحيانا تجبرك.)، لم تجبه؛ لكنه بوعي كل العمر الذي مضى فوق صدره، سمع صمتها يقول:(أن لا شيء يجبرني)، احتضنها بدفء عميق،وقال أن لكل مكان وشخص روح خاصة تليق به، وله وحسب، بتلك الروح أقنعها أن هذا المظهر هو الروح التي يتمنى أن تهديها له،بروح الاستثناء بات يفرض لنفسه الحضور الذي يحب فيها،كان يلمس خصلات شعرها ويهمس في روحها كلمات لا تكاد تدركها، لا تسمعها، لكنه يراها في روحها حية مع الوقت، هكذا بات يرى تلك الاستثناءات التي يعبر عن رغبته بها، تتحول إلى عادات يومية، وهوية  شخصية لها مع مرور الوقت.


تعد نفسها اليوم بثوب قرمزي غير مبهرج، ينسدل بقماشه الكتاني مضفيا على نفسها ذلك العمر الصغير الصاخب، تعيش اللحظة كما تحبها، صاخبة، سريعة،عفوية، عابثة، دون أن تفكر بوقتها القادم، مقرفصة أمام عقارب الساعة محمومة بالقلق، اعتنت بصوتها هذا النهار برغباتها المكتومة، تأملت قبل خروجها بعض الصور المهملة التي لم تعلقها أمس، بعض الصور تسكن درج مكتبها الصغير، كانت روح عدوان قادرة على دفعها دوما لاكتشاف أماكن هادئة ساكنة،في اقترابها من روحه، في طي أماكن جديدة معها، رأت في ملامح الأشياء البسيطة روحا جميلة حية، سمعت صوت جدرانها، دفء الليالي الباردة،صوت الزجاج، الحجارة،حبال الغسيل، صوت الحارات العتيقة، ورائحة الورد، والحارات العتيقة.
بينها وبين عدوان عمر طويل، وذاكرة مختلفة، يحدثها في ليله وهو يقلب صورها واحدة بعد أخرى،عن ليال ترك فيها السلاح، في وقت تشتعل فيه الحرب في ضواحي بيروت، وقت كان من الصعب عليه أن يأخذ موقعه، حمله الإرهاق والتعب على الابتعاد، هكذا اختار مكانا ساكنا خلف عتمة آلة تصوير صغيرة، لاحق بها تدافع زملائه، رفاقه، قلقهم، وجعهم، هروبهم من الموت،تعلقهم بروح حياة خافتة، لا يكاد نورها يضيء،كانت تحب حديثه، في كل مرة تصغي لحديثه وروحه تقول : ( أبدل روحي أحيانا، أغير زينتي،استغني أحيانا عن العطر، نحن كل ما عشنا يا عزيزتي، كل ما قلنا يا عزيزتي، وكل ما لم نقل يوما لسبب ما أو لآخر).
وقت قصير يفصلها عن ساعات المساء، تنتظر هذا المساء افتتاح معرضها الأول، هي المرة الأولى التي تستطيع فيها الوصول إلى معرض يحمل اسمها، قلبت مشاعر محتشدة في نفسها، عن روح امرأة حالمة كسرت عدستها أمس، كان دافئا كثيرا،له  صوت مترنح كأنما يذهله بريقها، لمعان وجهها في العتمة،نزع عنه ياقة قميصه المعقودة بشدة، وبدل ثيابه مرتديا بيجاما خفيفة، تاركا أزارها العلوية مفتوحة، ليترك لنفسه مساحة واسعة للتنفس، لم يستغرب وجودها، فقد حدثها حال أنهى لقاءه التلفزيوني ودعاها للحضور، بل لانتظاره حال يعود، كان له صوت خشن حاد مربك آن ذاك، صوت تحبه،وتطوي اللغة والانشغال لتكون في محرابه، أشرقت في وجهه بابتسامتها، هدوئها، وصخب جميل تحدثه شقاوتها في نفسه،أحبت أن تثير روحه إذ تحدثه عن انشغالها به كل الوقت،ومتابعتها لصوته حيث يكون،رتبت ثيابه المبعثرة، علقت بدلته الباذخة، وربطة عنقه  الحمراء،وقالت بعض العبارات مازحة:( أحببت حديثك حول المصادقة على قرار عدم شرعية الاستيطان، حديثك رائع، لكني الشقية التي تستوطنك دائما، ولن تحصل على أي قرار يلغيني) ضحك بصخب، (هذه سياسة غير مجدية عزيزتي، أنت ثمينة لدرجة تجعلك غير قابلة للمساومة ) بقدر ما أحبت عباراته، أذهلها صوته المختلف عن ذلك الذي سمعته قبل ساعة يتحدث ويجادل ويحابه، صوته المترنح الآن يبدو صادقا رائعا، صافيا، طوت نفسها بسرعة، وقامت كمن يحاول استراق سبق مذهل، أمسكت كاميرتها وراحت تضئ عتمتها بصوره:  ( هذه الصور ستكون أكثر دفء من تلك التي التقطها لك في كثير من التظاهرات، هنا تبدو روحك أكثر صفاء، هذا سيكون محوري، (مساحات ) سيكون عنوانا مختلفا) ، سمعها كثيرا، تابعت الحديث كأنما هي تعيش روحا أخرى الآن، أما هو فكان حادا ليظهر هذا البرود، دون أن يشعل المكان صخبا وصراخا، أزاح آلة التصوير بإهمال، كأنه لا يقصد كسرها تماما:( قلت لك أن المرحلة أحيانا تجبرك،و أنك استثنائي الجميل، هناك دائما ذلك الفرق بين ما أدعوك تحظي  به أنت، وبين ذلك الشيء الذي يراه الآخرون).
قلبت في نفسها مشاعر محتشدة، كانت تعلم أنه كان أكثر صدقا في صوته المترنح، لكنها بدت تلقي عن روحها ذلك الليل كله، وأعدت نفسها كما تمنت دوما، المرأة التي أرادت في مرآتها، تترك امتداد ساقيها البسيط ظاهرا بلونه الباهت، أكدت لبعض الأصدقاء الحضور في موعد الافتتاح، كأنما تحاول أن تعوض في روحها ذلك الكسر الذي تركه بكلماته الباردة، وحرصت على الوصول قبل الموعد ببضع ساعات .

قلبت الجدران والصور، وذاكرة حملتها كل صورة من الصور، لكل صورة منها جسد تحسه أحيانا يصخب بالحياة،وتراه هرما أحيانا أخرى، صور تتحرك فيها الشوارع، أحلامها، الشبابيك، والروح تحمل من كل هذا ذاكرة متداخلة، للأزقة روح صاخبة، للمكان روح مختلفة تتحرك بيننا .

كان وجهه محتشدا في عينيها، اتصلت به قبل دقائق تؤكد عليه الحضور، لم تتوقع أن تجده واقفا حال وصولها، كأنه ينتظرها، اقتربت منه، لم تنتظر أن يبادلها الأحاديث:( وصلت مبكرا جدا ناهض، سيمضي بعض الوقت قبل أن ) أما هو فلم يترك لها تلك المساحة لتتابع الحديث:(  كنت سأسترق النظر إلى صورك و أغادر، بهذا الهدوء قبل حضورك، وكنت سأترك هذا دون أي توقيع)، كتب بعض العبارات، قدم لها الورد وغادر:( ربما الآن يمكنني أن أتابع رسم لوحتي عزيزتي)، نظرت إليه وهو يغادر المكان: ( لكنك لم ترى معرضي)، مضى هادئا ساكنا، لم يلتفت كأنه لا يسمعها، وفي روحه تعصف هي بالحياة، كأنما أعادت إلى شرايينه جداول دماء أعادت إليه الروح، يسير مغادرا الآن واثقا أنه سيعود،فكفها لم تكن باردة، ووجها ليس مضبوط الإيقاع، سيراها إذ يحتشد حولها بعض الأصدقاء والمتطفلين، وسيعرف أنها مع كل هذا الانشغال ستراه. 

تعليقات

المشاركات الشائعة