فصول


فصول
لم تكن تعرف حين عقدت خيوطها الأخيرة في ذلك القميص الصوفي الذي تحكيه، أنه سيبقى مثنيا في خزانتها حتى الآن، ينهشه البرد شتاء، فهو لم يجرب دفء جسد يطوي نفسه بين خيوطه ، يبقى باردا مطويا على أحد رفوف الخزانة.
أشغلت أيام الخريف الأخيرة بحياكة الصوف، يستيقظ غسان صباحا، فيجدها وقد أيقظت النهار، تجلس في ظل عريشة الدوالي، تحيك الصوف، تقف نهايات الصوف بين أصابعها، وتتدحرج كرة الصوف بين قدمي غسان،ويجد نفسه يصوغ الشكر لوما حين يعاتبها:(لماذا تتعبين نفسك بحياكة قميص لي، سأشتري الكثير من القمصان الصوفية، حين يحل الشتاء، هي متوفرة ولا داعي لكل هذا العناء). تمضغ عتابه وترد بابتسامة دافئة، وتشد على يده:( هذه أفضل، وأدفأ لأني صنعتها بيدي).
يطوي الوقت نفسه كل عام مقلبا الفصول، ولا تزال تطوي القميص الصوفي الأزرق في أواخر الشتاء، وتحزمها مستقبلة أيام الصيف الحارة، وغسان يكبر بعيدا عنها، يحسب الوقت بعيدا عنها، تتخيله وقد أصبح عريض المنكبين، واسع الصدر، وربما صارت ملامح وجهه أكثر قسوة، تمضغ الوقت مرا، هادئا جدا، فهو لم يعد موجودا في أرجاء منزلها القديم، يشعل الوقت صخبا وهو عائد من الملعب، يرمي إليها بثيابه،ويلقي الكرة بعيدا،ويلوم حظ الذي جعله يخسر اليوم أيضا،وتراه يمضي وقته بين أصدقائه،في زقاق الحي القريب،ويعود إليها مساء، يفتش عن سرير ينام فيه بعض الوقت، أو يبحث في حديقتها عن صوتها تسأل الله له الرضى، إذ تراه يقلم بعض الأشجار،ويلملم العشب الهائج في وجه حديقتها.
لم تعرف قلقا عاشه غسان أكثر من ذلك الذي رأته في وجهه وهو يعد نفسه لامتحانات الثانوية العامة، تذر شغبه وهروبه بين الحين والآخر من صفحات الكتب إلى أحاديث الأصدقاء، وتجمعهم في ساحة الحي، أو تدافعهم خلف إحراز هدف صعب في الملعب، لكنه كان محموما بالقلق منتظرا نتيجة الامتحان.
الأولاد يكبرون بسرعة، لا تعرف متى كبر غسان، متى صار يكوي ثيابه، ويرتب أحذيته، ويلمعها، وينسق ألوان قمصانه، ويعدل ياقة قميصه، لا تدرك تماما متى تغيرت ذائقته الموسيقية، فصار يتجنب أغنيات الدبكة الصاخبة، وبعض الأغاني الشعبية، ويحب تلك الأغنيات الحادة الثائرة، غاب عنها خلال دراسته الجامعية، يغيب عنها أسبوعا، أسابيع أحيانا أخرى، لا تدري ما حدث تماما، كيف صار غسان بعيدا، ماذا تراه يفعل، كيف يقضي وقته، ألا زال يحتفظ بكرته ذاتها،وهل وجد رفاقا في الحي الذي يسكنه يلعب معهم الورق، والكرة ألعابا أخرى،وهل وجد ملعبا قريبا، أم تراه يرسمه بالطباشير البيضاء.
قضت العمر تعد الوقت بانتظار أن يكبر غسان فيشتد عوده، ويقف صلبا قويا، بشارب كثيف أسود،كانت تحب امتداد شاربه أشعث بعض الوقت،واستطالة لحيته، رغم أنه كان حريصا على تشذيبها كل الوقت، يكبر الأولاد بسرعة، ولا تعرف تماما متى تسلل ابنها من كراسته، من وقته المشاغب،متى أضاعته عائدا إلى منزله بعد أسابيع قضاها في جامعته.
كانت تمازح جاراتها وهي تقول:( نحن موسوم بالجري خلف أبنائنا، نلحقهم بالمعاطف والقبعات والمضلات شتاء، وعيوننا تتبعهم وتلاحق غيابهم)، ظلت تقول هذا مازحة، حتى باتت صارت تلاحق قلقها بعد اعتقال ابنها، لا تدري تماما ماذا رأى الجنود على الحاجز في وجهه،كانت تنتظر عودته وقد تأخر عنها بضعة أسابيع،أي تهمة تربصت به حتى صار بعيدا عنها، فتشت  بين مكاتب الصليب الأحمر عن بعض أخباره، ولاحقت أصوات المحامين، وفي أرجاء المحاكمات من جلسة إلى أخرى، من قاعة إلى أخرى، لا تعرف الكثير عن لوائح الاتهام التي ألصقت به، سمعتها تتكرر كثيرا، سمعت من المحامي أحاديث عن جهوده الحثيثة للوصول إلى حكم مخفف، يضحكها الأمر كلما تذكرته، هو حكم على كل حال، وهو بهذه القسوة والوجع، فكيف يمكن أن يكون مخففا، كيفما كان ستمضي أعوام وهو بعيد عنها.

لقد قرر أن يكبر فجأة دون أن تعي ذلك، عرفت أمس أن غسان سينضم إلى رفاقه المضربين عن الطعام، سيزداد نحولا، ويبهت لون وجهه، وربما يخفت وميض ذاكرته مع الوقت، وعله ينسى وجهها حين تتمكن من زيارته، بعد انقضاء الإضراب،بدأ الصيف حارا حادا هذا العام، مبكرا في اتساع قرص الشمس، كانت تودع الصيف وتنتظر الشتاء حين اعتقل غسان، وتراه اليوم يبدأ صيفه بإضراب يجربه للمرة الأولى، إذ لا زال عوده غضا، ترتب فناء منزلها، وتفتش في ثياب الشتاء المركونة على الرفوف العالية عن قميصه الأزرق الصوفي، تحمله وتخرج إلى خيمة الاعتصام وسط المدينة، ليست حاشدة هذا الصباح، ربما لا زال الوقت باكرا، تفتش عن صورة لغسان تجلس في فيتها، وتتدارك روحها الأمر:( لم يكن غسان ثرثارا، كان له ابتسامة دافئة وعينان دافئتان، ووحدي من كان يعانقها)، تحتضن في كفها صورة صغيرة له، وتحمل قميصه الصوفي وتجلس بذلك الوقار الصامت، لا تفتعل شغبا، ولا تهتم بإشعال حديث مع سيدة هنا، وأخرى هناك.

مع ارتفاع قرص الشمس في ساعات الظهيرة، كانت أبواق السماعات تعلو بالأذان، وببعض الهتافات، وهي تحاول أن تظل ذلك الركن الهادئ،اقتربت منها صبية صغيرة كانت تشغل وقتها بالتقاط صور المحتشدين تضامنا ومحبة، وانتظارا، قبل أن تقترب من ركنها الهادئ، رسمت ابتسامة، وارت بها كثيرا من الصور التي التقطتها لها ، لكفيها اللذان يحملا قميصا وصورة صغيرة، كانت تفتش في حديثها عن كلمات تروي حكاية خيوط صوفية زرقاء في يوم صيفي حار كهذا،وتفتش في الصور عن مانشيت عريض تسجل اسمها تحته، و يحكي قصة مختلفة في تدافع الأخبار وتلاحقها، بنفس الوتيرة والشكل، إلا أن جغرافيا المكان وربما شخوصه يختلفون من مكان لأخر، تركتها تأخذ ما شاءت من الصور، وأرسلت إليها ابتسامة دافئة، قبل أن تغادر معتذرة بأن عليها أن تقطف الدوالي وتخزنه لأيام الشتاء الباردة .   

تعليقات

المشاركات الشائعة