رمال

رمال


عزيزي :

لم أفقد بعد طباعي التي تعرف، لا زلت أنسج الصوف وشاحا شتائيا دافئا يشتاق عنقك، وأتخيله ينسدل على صدرك فيبدو قصيرا فأعود وأحيك بعض الغرز الإضافية، وتبتسم عيناي فقد كبرت، صرت أطول، وصارت أكتافك أكثر عرضا. ومع المغيب أشد القصب وأجدل بعضه ببعض وأصنع سلالا، وكلما أحببت واحدة وشعرت روحك تبتسم لي إذ أصنعها، أضعها جانبا، ولا أبيعها في متجري، وأنتظر عودتك،ستحمل السلال وتضع في بعضها جهاز عروسك، وتجمع نثار مراهقتك في بعضها الآخر، وتخبئ الصدف في أخرى. 
كنت تهرب من واجباتك المدرسية، وأصوات المعلمين الثقيلة، وتركض في شوارع الحي الضيقة، لم تكن الشوارع مرصوفة، مبلطة بهذا اللون البني الصغير، ولم تكن ناعمة، لكنك كنت تتجاهل صراخي، وتلقي حذاءك وجوربك في فناء المنزل الضيق وتخرج حافي القدمين، تركض سريعا، هادرا، وتعود مساء بقدمين تلونهما الرمال، والطين أحيانا إذ تمتزج الرمال بالمياه، وتعود بصدر أكثر اسمرارا بعد أن أمضى الكثير من الوقت تحت الشمس.
 لم تفهم قلقي عليك يوما، كنت الحلم الذي راودني تسع شهور، ووضعتك وحيدة في ليلي البارد، بينما والدك يقضي ليله في المستشفى بعد أن أصابه رصاص جندي بينما كان يصيد الأسماك ضمن المنطقة البسيطة المتاحة لأحلامه بنبش الرزق له في البحر.

ابتلع البحر أحلامنا جميعا، أحبه، أسمع صوته، و أخافه، في كل حصار، في كل اجتياح، كنت أشكر الله أن الموت أخطأك، سخرت من قلقي في كل مرة تشعل الآلات العسكرية المكان صخبا، وتدمر وتهدم كل شيء. لم تنل منك الآلات العسكرية الصاخبة على الحدود، ولا الطائرات الهادرة صباحا، ومساء، ولم تصبك رصاصة فلتان أمني أهوج طاف المكان لسنوات، وسرقك البحر مني، سرقتك أحلامك مني، ولا زلت أنتظرك، وأطوف بين الجارات أفتش في وجوه بناتهن عن زنبقة تبرعمت لتوها علها تعجبك، فتعود لتبدأ حياة أخرى معها.


تطوي أوراقها تحت جبهة قلم  سينضح عما فيه من حبر بعد أيام في هذا الطقس، وسيأتي على ما فيها من كلمات، ركب نبيل البحر، على متن باخرة متسللة من إحدى الدول الشواطئ المجاورة، صغيرة كانت، مكتظة بالحالمين، الباحثين خلف البحر عن أفق يطوفون فيه، وعمر يسرقونه من الوقت، لا زالت أمه تكتب رسائلها، وتدعي كل مرة أن العمر خانها وسرق ذاكرتها فنسيت عنوان نبيل البريدي، ونبيل لا زال يسكن البحر مفتشا عن حلمه. 

تعليقات

المشاركات الشائعة