أحاديث روما الصغرى

أحاديث روما الصغرى
يبدأ صباحه متأملا عطر الورد في أصيص زرع فخاري قديم، يكشف الفخار فيه عن بعض الجذور الصغيرة، وتحكي رطوبة الفخار ارتواء تحسه عروق الورد، ويجد الفرصة سانحة لينفث الكثير من الدخان،دون أن يسمع ذلك الاستنكار الدافئ الذي تشعله زوجته، فمنذ أن حضر ليتم بعض الأعمال الاستكشافية مع فريق من الدارسين والباحثين.
فضل أن يسكن في منزل صغير وقديم وسط مدينة شفاعمرو،ويجتمع بين الحين والآخر مع فريق الباحثين في الفندق، يناقش معهم الكثير من المواضيع، ويركز في حديثه على انعكاس روح المجتمع في حديثه، ويجد في نفسه حكايات أكثر غنى عن عمر المكان، يسردها بإيجاز في حديثه خلال الاجتماع، ويكتبها بدقة في تقاريره، ويرويها بشغف وود بين الحين والآخر لزوجته.
بين زوجته والمكان ذاكرة من صور، لا تعرف من الحجارة غير تلك التي رأتها في الصور،ولا تدرك من الحكايات غير تلك التي سمعتها من أمها، أمها كانت تسكن لندن وتحكي عن حياتها في مخيم خان الشيخ، وتروي حكايات الجدة عن صفد في الجليل الأعلى.
بين زوجته  والأمكنة ذاكرة من صور وحكايات دفعته بحماسة للمشاركة مع فريق الباحثين في مركز الأبحاث التاريخية، وهي ذاتها التي دفعته للعيش بقرب في روح المدينة، هكذا ليسمع صوتها صباحا وصخبها مساء.

أمضى ساعات النهار يتجول في الشوارع، يقرأ صوت الوقت فوق المكان، يحسه سريعا في يوم إجازته،طوى الوقت في المتاجر، يفتش في بعض الأحيان لزوجته عن رداء فاخر وعريق، كذلك الذي ترتديه جدتها، لم يكن الأمر سهلا، إلا أنه بدا مستمتعا بهذه الحجة التي سمحت له بدخول متاجر عديدة، واقتناص فرصة الحديث مع أشخاص عدة لا يعرفهم،يقلب اللغة بين العربية التي تعلمها من زوجته، ولغته الإنجليزية، ويعتذر إذ لا يعرف إلا بضع كلمات قليلة من العبرية.
ابتسم بينما كان يرسل رسالة لزوجته يخبرها بود كيف صار يدرك الآن لماذا كانت تتحدث معه دوما بلغة انجليزية نقية أكثر الوقت، قال لها:( اللغة انعكاس لكل ما نرى، لكل ما نحتاج،نحن نغدو أطفالا في كثير من الأحيان، نعيد احتواء الكلمات التي نسمعها كثيرا.) كان يعلم أنها ستكون مشغولة الآن، ولن تجد الوقت كافيا لتجيب رسالته،أردف:( لكني دوما أحب الغزل منك بتلك اللغة العربية التي لم أفهمها أول الأمر، كم جميل أن أحس الحب منك، دون أن أفهم اللغة، فالحب بذاته لغة لا تحتاج قاموسا للحروف.)

وجد في الليل مساحة أكثر دفء، ليس لليل صوت صاخب، كما أن ارتياد المكان بروح الزائر المشغوف لهفة وحبا يختلف في وقعه عن ارتياده بروح الفضولي الذي جاء لإنجاز مهمة علمية مهنية، سيكتب تقاريره بروح الباحث الفضولي الذي جاء ليوقظ المكان، ويسترجع في نفسه صوت امريكو، وماجلان، وكولومبوس، ورحلات ابن بطوطة وابن ماجه، وكل من ارتاد الأماكن شغفا وحبا وطمعا، علميا حينا، ومعرفيا حينا آخر، ورغبة في الاستعمار والسيطرة، سيتذكر كل هؤلاء ويكتم في ذاكرته روحا شغوفة استيقظت في المكان.
انتظر يوم الإجازة بروح طفل مل كراسته المدرسية، وصوت المعلم، طاف مجددا بكل مكان مر فيه، كان يفتش عن صوتها، عن أنفاسها، عن طيف نور لمحه بين ساعات النهار، وبينما كان يحتشد مع زملائه المنشغلين بتقليب الأوراق والخرائط، والخروج من زاوية هنا، والحفر في زاوية أخرى، جاءه صوتها صوت علوي دافئ، له رنين مزلزل في روحه، على أنه لم يعي تماما ما قالته، رآها ساكنة، لها ملامح هادئة، تبتسم قليلا بين دفتي وشاح أبيض شفاف لامع، يطير مخفيا الكثير من ملامحها، ورداء يتأرجح في الهواء، يحسها في روحه، ويدرك ألا أحد يراها من زملائه سواه،  روح من عطر ترافقه في كل زاوية.

كان زملاؤه يتابعون البحث عن مغر تعود إلى العهد البيزنطي، بعد عثورهم على آثار تفضي إلى كثير من أسرار تكتنزها روما الصغرى، وهي تجلس بذاك الوقار فوق تلال سبع،  تطالع العابرين والمارين، وتهدي عمر ابن العاص العافية من عين  مائها، فيهدي لها الاسم والهوية، ويتأمل في البعيد قلعة وأبراجا صارت تحجبها العمارات والأبنية الشاهقة،لكنه لا زال يحمل في جدرانه صدى صوت ظاهر العمر.
لقد أخذ على عاتقه عبء إضافيا، فعليه أن يروي لزوجته الكثير عن روح المكان الآن، لتضيف إلى ما تعرفه من روايات أمها وجدتها حكايات زوجها عن حاضر المكان،فهي تسجل ملاحظاتها الخاصة وتكتب حكايات عن مدن تشتعل بالذاكرة،فتسجل تحت هذا العنوان الكثير من الملاحظات والآراء الشخصية، وهو سيسجل آراءه الشخصية وملاحظاته عن الروح الاجتماعية والإنسانية، سيكتب عن جارته التي تستيقظ قبل أولادها بساعات لتعد الوقت لإيقاظهم، وتعد لهم الحليب، وربما سيكون دقيقا فيذكر أن لحليب جارته رائحة دافئة يشمها منبعثة إلى نافذته،تلك الرائحة التي أحبها فاقترب من نافذته كثيرا، حتى ابتسمت له الجارة، وقدمت الحليب له كما تقدمه لأولادها الصغار قبل أن يذهبوا إلى الروضة،ابتسم ذلك النهار فقد تذوق ذلك الطعم المختلف الذي لا يشبه تلك العبوات في المتاجر والحوانيت.

يفتش في الزوايا عن ابتسامتها، وشاحها الشفاف،وأنفاسها المزلزلة، رآها تدخل أبواب الكنيسة معه، لا يذكر أنه زار الكنيسة كثيرا، باستثناء بعض الزيارات القصيرة التي جامل فيها رفاقه في مناسباتهم العائلية، لكن روح الأرض دفعته للمكان،ورآها تدخل معه، تجلس إلى جانبه،تصغي بابتسامتها الدافئة لصوته،وأمنياته إذ يتمنى لنفسه الرخاء والصحة والعافية، ويتمنى لقلبه الحب والدفء،يراها تجلس إلى جانبه بذاك الوقار، فيحاول أن يكسر هدوءها فيقترب بكفيه منها، يلمس كتفها محاولا أن يبدأ حديثه إليها، إلا أنه يشعر بجسمه متزلزلا بين ثنايا روحها، ولا يكاد يراها، لكنه يحسها روح من  عطر تنبعث في الأرجاء.
اليوم يمر في الأماكن باحثا عن روحها، عن عطرها، رآها إذ كان يلبي دعوة لشرب فنجان من القهوة المنزلية، سيحتسي القهوة ويشم  عطر البيت، ويسمع صوت سيدة في المنزل تستقبله وتحتفي بحضوره، وتقدم له الدفء مع حرارة القهوة، ويتأمل على مسافة من فناء المنزل المكلل بأنواع الورود وألوانها مقام أبو عربية، لن يتمكن من دخوله فهو مغلق في هذا الوقت، وهي تترآى له روحها تقف في المكان،  عطرها، ابتسامتها، تطوف المكان، قريبة منه، وبعيدة عنه، يلمحها نورا في الليل، نور لا يقوى على حبسه في أي صورة تذكارية التقطها في زياراته وعمله،وهي بسمة في الصباح، تقرأ ملامحه، ولا تترك له المساحة فيحدثها،كانت تصعد أدراج القلعة العالية العريضة دون أن تحدث صوتا، لا أحد من المارين في الشارع يلتفت إليها، وحده يرقبها بفضول ولهفة، وحده يراها، ولا يدرك تماما كيف تسللت روحها ودخلت أسوار القلعة وتجاوزت بابها المغلق، وصارت تنظر إليه مبتسمة من ذاك العلو.
يطوي المكان نفسه على كثير من الأسرار،  تطوف روحها تحرس الأماكن العريقة، ولا  يقرأ ملامح وجهها فيعرف تراها تسللت من أي عهد للمكان  وبقيت تحيا حارسة لروحه، يطير شالها الأبيض الشفاف ويغطي كثيرا من ملامحها،يحسها تجالسه في منزله الصغير،  تطوف فنائه العتيق، وتقرأ التراتيل بين جدرانه،يتوقف عن الحديث مع زوجته، ويعتذر لها، إذ عليه أن يغفو ليكون جاهزا صباح الغد باكرا، ويتساءل كما لو أنه يحدث نفسه:( هل صار بيتي مقدسا حتى تطوفين فيه)
ابتسمت وحدثته، أشعل صوتها رجفة واسعة سرت في جسده،حتى أنه أوقع مفاتيحه على الأرض، ابتسمت وهي تقدم له المفاتيح و تقول:( الناس لا تموت، هم عابرون،وكل عابر يرسم وجوده في الأمكنة، يمهر الحجارة ببصمة كتلك التي وجدتها فيما تبقى من أبواب المغر، ولا عهد يطمس الآخر، هكذا تجد أرواحا متعاقبة، هكذا أنا هنا، هكذا تجد الشوارع تكتنز تحتها على عمر مدن نائمة تحت عجلات السيارات المتسارعة، وقلاعا تحتضن تحتها قلاعا أخرى، وأرواحا تكتنز في نفسها أرواحا أخرى، فالروح لا تغادر مكانها ولا تكبر). 


                        

تعليقات

المشاركات الشائعة