موسيقى هادئة

موسيقى هادئة
تتنفس غيابه بصعوبة،تحمل في طيات روحها حرقة كل اللحظات التي لم تكتمل بينهما،تتركنا اللحظات الأخيرة نعيش بطء العمر، ونسمع صوت الغياب عاليا في أنفسنا. يبدو المكان هادئا، إذ لا تسمع  أنين الإذاعات الإخبارية يتعالى من مذياعه القديم، تقترب أكثر، تتمنى لو أنه يغفو لبضع الوقت فتشغله شغبا، وتحيي قلبه صخبا، فيستيقظ مبتسما لها، وربما يكون عابقا بها أكثر، فيحتضنها بشغف.
تلمس تربة حديقته الصغيرة، يبدو التراب رطبا، تلمسه بيديها، وتتركه يتناثر كما الهواء بين دفتي الوقت،وتبسم إذ تحس أنه كان هنا، قرأ الحب على مسامع حديقته، وسقى زرعها الماء،تقترب من باب المنزل، تطرقه وتنتظر بعض الوقت، فربما كان نائما ويحتاج بعض الضجيج ليصحو، تدق الباب، تسمع صوت كفيها، هي والأشجار، والورد، والهواء،وإذ تلمس بيديها قبضة الباب، تمر بذاك الهدوء فتشرع أمامها مساحات شاسعة من برد يعصف بها.

ترك لها الباب مفتوحا، لم يوصده بالمفتاح، تذكر الآن كيف أهدى لها قبل أيام علاقة مفاتيح فضية لامعة، ابتسمت وغازلت نجمتها الخماسية الفضية اللامعة بخجل، إذ ليس لديها أي مفاتيح تعلقها غير مفاتيح خزانتها، وغرفة نومها،ضحك مبتهجا بتلك البساطة التي أحبها وتابع كأنما يتذكر أمرا ما:( نحن نعلق الكثير من الأشياء بهذا الشيء الذي ندعوه برزانة علاقة المفاتيح).
ارتبكت كما تفعل دوما حين يزرع الفوضى الساكنة في حروفه، لم تجبه، لم تسأل كثيرا، واكتفت بذاك الغزل بلون الفضة اللامعة:( ربما أحول علاقة المفاتيح هذه إلى عقد أتزين به، حين ارتدي فستانا بياقة مفتوحة كثيرا مشرعة الصدر)،ابتسم وقدم لها الشاي متجاهلا شغبها،بينما قضت الوقت تتذمر من فوضى أيامها المتلاحقة، وكسل روتين الوقت، وبين ذاك وهذا كانت تجد تلك المساحة التي تتنفس فيها روحها دفء بين ذراعيه، ويبتسم مقلصا تلك المساحة التي تسمح للسانها بالتمتمة  ومتابعة التذمر.
يضحك لشكواها البسيطة التي تشغل وقتها بها،تتذمر لتأخر صديقتها عن موعد غير هام بينهما، وتشكو إهمال مدرب البيانو تلك الرعشة التي تسري في أصابعها حين تبدأ العزف، وتتطرف أحيانا في تذمرها فتقرأ على مسامعه تعثرها في كثير من موادها الدراسية،وتضيف أنها لا تحب التاريخ،ولا تجد في دراسته أمرا منصفا،فهو مساحة كبيرة لاختيار زاوية النظر التي يحلو لنا رؤية الماضي منها، لا جدوى من دراسة التاريخ،إلا أنها الرغبة التي لم تقوى على كسرها، فوالدتها تقول دوما أن التاريخ ذاكرة، تمضغ حديث والدتها بهدوء مصطنع، وهي تفكر بحزم:( نحن نرى التاريخ من الزاوية التي نريد).
بيته هادئ اليوم، ترك بابه مفتوحا كأنما يعرف أنها ستأتي إليه،تتفحص زواياه، وفي كل ركن تجد الضدين معا يجتمعان، صخبها وهدوئه، قلقها واتزانه، صراخها ونفسه الطويل في احتوائها، هكذا تجد في الغرفة ذاتها ستارة مزركشة مطعمة بالألوان كتلك المناسبة لغرف الأطفال، بينما يختار لنفسه زوايا ومقاعد بألوان قاتمة هادئة مريحة، ويضع في مكتبته الموسيقية يراعي ذوقها الموسيقي الحديث، وأغانيه القديمة الكلاسيكية.
وفي ركن هادئ بين لوحتين كل واحد منهما أهداها للآخر، وراعى ذوقه الخاص فيها،فكانت لوحة بألوان الصيف الصاخبة، وأخرى بألوان الفحم الحادة على تدرجها، وبين لوحتين ترك مغلفا فوق منضدة صغيرة، اقتربت منه فقد كان الشيء الوحيد المختلف الذي لم تعتده في المكان، ترك لها فيه مفتاح المنزل، وبعض الورق المطوي على كثير من الكلمات، ومسبحة بحبات فضية لامعة، حركتها بين كفيها، وفتحت أوراقه المطوية، كتب فيها بعض الكلمات، وترك لها أن تسمع صدى صوته:(البيوت نحن يا عزيزتي، لم تكن المنازل جدرانا يوما، هي أنا، هي أنت، اختلافنا، وعناق لم نتمه، إذ انتفضت خوفا، وابتعدت جزعا لاختلافنا، وأنت تتابعين دراسة التاريخ الذي لا تحبين، والذي ربما يجعلنا على هذه المسافة،سأسافر وأتابع أيامي آملا بإتمام الدكتوراة، وأترك لك الوقت مساحة تكبرين فيها في روحي، ويكب بنا العمر، وتكبر صورنا، تتغير ملامحنا، وربما يكبر بنا الوعي).
علقت المفاتيح في علاقته الفضية التي أهداها لها،نحن نعلق الكثير من الأشياء بما نسميه علاقة مفاتيح كما قال لها، طافت في حديقته، حديقتها، تابعت صوته: ( تركت لك زرعي وأشجاري، وأشتالا لم أزرعها بعد، إذ لم تمطر بعد فأزرع أشتالي بعد نهار ماطر في تربة ندية،اسقيها ماء ودفء ومحبة، واحتفظي بروح المكان، الذي كنا نحاول فيه أن نعيش اختلافنا البسيط، أنتظر يوما نديا بعد ليل ما طر تكبرين فيه ، وعل اختلافنا يعيش فيه بكل ود).


تعليقات

المشاركات الشائعة