صخب

صخب
يرسم الوقت في تفاصيل نهارها روحا غريبة قلقة، لأول مرة يوجعها النظر في المرأة، وكأنها ترى خطوط وجهها لأول مرة،تتفحص ألما ساكنا في نفسها منذ أعوام،أمام مرآتها ضبطت مكانا مرتفعا لساعة حائط ومفكرة يومية تلاحق مع وقعها كل صباح صوت ارتطام الزمن بجسدها الهش بشكل حاد، صوت لن يعدها أبدا بجسد متكور على حلم، مكتنز على روح جديدة، واعدا روحها بروح أخرى تجمع نفسها في أحشائها.
نسجت في جدران مرآتها حياة أخرى تعوض غيابه،فهي تذكر كيف اعتنى بذلك التفصيل الدقيق وهما يعدان منزلهما، جهز مكانا هادئا بسند كتفيه على شباك هادئ لا يصدر عنه كثير من الصخب، ولا يحمل الشارع بين جنباته أطيافا من القلق، واعتنى بالبحث عن مرآة بامتداد قوامها الممشوق، لتكون روحا تكتنز كل هذا السحر بين كفيها،ولا تنسى أبدا استغرابها منه إذ اعتنى بدقة الألوان التي تحبها، و قلب متاجر عديدة قبل أن يقف مختارا لها هذه المرآة  الأرجوانية.
يرتخي فوق رأسها عالم صاخب ممتد كسهل حشائش برية هائجة، تجمعه وترتبه في جديلتين ساكنتين، لا زالت جدائلها تزداد طولا، وهي تحرص كل صباح على شدها جيدا، دون أن تترك لها النوافذ مشرعة لمزيد من الحلم، ستزداد طولا، يزداد غسان بعدا، وهي تغزل الوعد انتظارا مؤلما قلقا موحشا.
كان يحب شعرها مديدا كشلال هادر، مشتعل بذلك الشغب الحالك،يحب أن تضيع يديه بين ضفائرها،إذ يقترب من أذنها هامسا،تضيع كفيه فلا يكاد يحسها إلا نورا يلامس أثير رقبتها الممتدة، مشرعة على حياة دافئة مكتنزة بحلم دافئ،لا يكاد يسمع صوتها، تتشكل روحها بين ذراعيه،وتتأمل معه احتياجها لإحساس جديد،اعتنت بجمال لحظتها،وأرخت شعرها المديد فوق امتداد فخذيها،بامتداد ذراعيه في محيطها، تلون جسدها بالعطر، تحب أن يكون هو عطرها،وتحب أن يكون كل زينة تجمل بها وجهها.

كانت روحها تخفق سريعا،يتلون جسدها مشتعلا بالدفء، تصخب روحها كلما صارت أقرب،وبحجم تلك المسافة الضيقة يحس بها أكثر، أكثر من إحساسه بصوت الرصاص، باحتدام الموت في الشارع الملاصق لنافذته،لا يكاد يسمع صوت ارتطام أحذية الجنود العسكرية، وهي تعتلي بحدة وصخب الدرج،هكذا كانت الدقائق صاخبة سريعة، لا تغيب اللحظة عن روح غسان وهو يمضغ السنين معتقلا لسنوات مديدة لا يدرك تماما إن كانت تنهي يوما،وحده الوقت يسرقنا من دفء لحظاتنا.  
مسدت حدود خصرها المنحوت أمام المرآة هذا الصباح،لا زال قوامها ممشوقا، لم تتغير ملامحها بعد،لم تحس صدى تلك النطفة المهربة من بين جدران السجن،ما من دفء تحمله،لا يرافقها عناق غامر صاخب، ما من حياة قد تخبئها، لكنها أعدت نفسها لمراجعة العيادة الطبية، متذكرة صوت غسان محملا بالأمل:( ستكونان معا في انتظاري عندما أعود،لا أريد لك أن تمضغي الوقت وحيدة،سيكون قريبا منك،وسأكون).
  لا تعرف كم مضى من الوقت قبل أن يحين دورها في الدخول إلى العيادة،لكنها تدرك تماما كم مضغت من القلق،من الخوف، من صوت هاجس مدو في عروقها،هو ذات الصوت الذي سمعته في صوت الطبيب وهو يقول : ( لم ينجح الأمر هذه المرة،ربما عليك إجراء بعض الفحوصات).
باتت تعي تماما ما تكتنز به تلك الكلمات من وجع، لن يزهر الورد في حقولها يوما،لن تنبت فيه أي زهرة برية في صباحات الربيع،تحس روحها أرضا قاحلة تصخب بكل هذا الانتظار وحيدة هي أيضا كغسان و إلى الأبد.









                 

تعليقات

المشاركات الشائعة