ثرثرة المرايا

ثرثرة المرايا

 ثرثرة المرايا                               

استيقظ هذا الصباح باحثا في خيوط النهار عن يوم عادي يمضيه بعيدا عن أعماله المتراكمة، وصخب متابعة زبائنه، أرادها اجازة مختلفة لبعض الوقت، متنفسا وحدة اعتنى بتفاصيلها بدقة.

رتب سريره مربتا فوق غطائه مرات عديدة، محتفلا بلونه الذي يحب، كان السوق المكان الأول الذي فكر بزيارته بعد أن ودع زوجته وأولاده في المطار، ترك سيارته على مسافة بعيدة من السوق، واختار ان يمشي متصفحا يافطات المحلات التجارية، مقلبا الأرصفة الصغيرة والشوارع الضيقة، مستنشقا الأبخرة المتصاعدة في المكان، وعشوائية الباعة المتجولين و ارتفاع أصواتهم، قلب المحلات باحثا عن غطاء سرير أسود معتم لا لمعان فيه، ولا لون آخر يقاسمه مساحته السوداء، بدت مهمة صعبة، لكنه تجاوز أماكن عديدة ووجوه مختلفة، وسمع الكثير من النصائح التي يطلقها التجار عبثا، إذ أنه لا يرى سوى هذا اللون، وبهذه التفاصيل الهادئة.

قضى كثيرا من الوقت حتى انتهى به الأمر إلى هذا الغطاء الذي لون سريره، بعد أن أشاح عن وجهه غطاء آخر بلون أرجواني صاخب أحبته هي أكثر، واستمع لصوتها واستمتع بصوتها، بقدرتها الفائقة على صياغة ما تحب، ورسم ما تريد، واختطاف غضبه الصامت بمحبة لا يدركها.


لا يذكر أنه أحبها، لكنه اعتني ان يكون كل من تحب، واهتم بتلك التفاصيل الدقيقة التي ترضيها، وترسم على وجهها بسمة لامعة، هجر الكثير من أوقاته ليقضي معها وقتا اطول. منذ حضرت أروقته وحفلات السهر تشتاقه، ومقاعده في المقهى باتت لا تعرفه، وهي لا تحب عشوائية الأسواق  الشعبية، و أنواع البضائع فيها.

لا يذكر انه أحبها، لكنه اعتنى أن يكون لها وطنا يرفع عنها ثقل الغياب عن كل من وما تحب، وكل مكان اعتادته، وكل طريق أحبت السير فيه.

وقف مطلقا ذراعيه في الفضاء، مشرعا النافذة تاركا للستائر تلك المساحة للانعتاق، مصغيا لثرثرة أوراق بعض الكتب التي قلب صفحاتها ليل أمس مسندا رأسه على الوسادة ، مستلقيا على سريره، ابتسم لثرثرتها الصاخبة وردد كأنه يحدثها:" هي جميلة ومذهلة، لكنها تحب تناسق الاشياء في سياق رتيب، ومكانك دوما رفوف المكتبة."
سار إلى المطبخ، تأمل زواياه الساكنة، كم ينقصه وجودها، ارتفاع صوتها حين تناديه ليتناول معها افطارهما، كان يحب لو أنها تترك ينثر شغبه في المكان، ويراقبها بدفء وهي تقلب الصحون وتتحرك على عجل، تسابق الوقت لألا يتأخر عن مواعيده.

أعد شايا بالكثير من السكر هذا الصباح، و أهمل فناجين القهوة المنزوية بعيدا، هو لا يفضل مذاقها في صباحاته، على أنه اعتادها إذ أنها تفضلها أكثر، شرب فنجان الشاي على مهل هذا الصباح حتى أن حرارته ما عادت تلسعه، وذهب يعد نفسه لصباح مختلف.

ارتدى قميصا بألوان صاخبة، وبنطالا من الجينز مهملا ربطة العنق، متذكرا ما تقوله زوجته:" ربطة العنق لا تليق وهذه الالوان الصاخبة المبعثرة." وتنصحه مكررة لمرات عديدة بارتداء قميص بلون واحد هاديء.

ابتسم لصوتها الحاد في ذاكرته اليقظة، وتجاوز زجاجات العطر الفاخرة التي تهديه إياها في كل مناسبة  يتذكرها، أو يتظاهر أنه لا ينساها، فلا يرى في عينيها عتبا لا يحبه، لون نفسه بعطر رخيص يحرص دائما على وضعه في مكان لا تراه فيه، فتعود عليه بالأسئلة وصدى الاستغراب.

خرج من منزله متجاوزا سيارته، مشى مسافة طويلة، يطوي الشوارع الهادئة والبنايات الفخمة، وصدى صوت زوجته إذ تذكره أن مظهره اليوم لا يليق بهذه الأمكنة، وبمعرض السيارات الذي يديره." ابتسم لصوتها:" لا عليك فأنا في إجازة اليوم.".

فكر اليوم برسم الصورة التي يحب ليومه، فتش عن مكان عشوائي ستناول فيه فطوره، تشعره فوضى الأمكنة و عبثيتها بالحياة، وكم يجد متعته في إيجاد مكان لنفسه في هذه الشوارع الصيقة، يصافح الكثير كم الأكتاف في محاولته تجاوز الطرقات الضيقة، ليصل مطعما شعبيا في الزاوية البعيدة في آخر الشارع.

تصفح الشوارع بعبث، لا يقصد مكانا، ولا يفتش في الوجوه عن صورة يشتاقها، لكنها أجمل اللحظات تأتي حين لا تنتظرها، قرأ وجهها بين كل العابرين، عيونه تناديها محافظة على تلك المسافة  الشائكة بينهما، بينهما مساحة وقت ، وطريق لم يسيرا فيه معا، وورد لم يتفتح.

كم يذهله وجودها اليوم هنا، هما اللذان تقاسما هوية واحدة، وانتماء جمعهما، وهي التي تمسكت بحدودها الجغرافية الضيقة، رفضت أن ترافقه في سفره، قالت له بصوت حاد أنها لا تجد نفسها خارج هذه الحدود، وأنه سيرهق نفسه كثيرا محاولا تعويض الوطن الذي أحبته. رسمت بينهما مسافة شائكة ذاك المساء، وصار له طريق يبدأه وحده؛ لا بل دونها .

يستغرب وجودها اليوم هنا، يسأل نفسه مرارا:"  ألم يعد في صوتك حدة ترفضين بها؟"  يطالعها مختلفة تماما هي اليوم، تترك شعرها منسدلا طويلا يقف في حدود ظهرها، وترتدي تنورة غجرية واسعة، وقميصا ورديا، وتبدو أطول مما اعتادها.

يطالعها على مسافة من العمر، مدركا أنها لا تراه، إذ يلاحظ في عينيها ملامح انتظار ، يراها تراقب عقارب الساعة، وتسند يدها على الأخرى لتضمن متابعة ساعة يدها بدقة، كسرت لحظات انتظارها حين أطلا معا صبي ورجل يبالغ في اظهار اناقته وشبابه، لم يحدثها، سارا ثلاثتهما باتجاه مكان لا يدركه، هي لا تسير بمحاذاته تماما، يتقدمها بخطوات، وبين الفينة والأخرى يتذكر وجودها خلفه فيناديها:" أم مجد" ويسألها شيئا ما.

غادروا المكان ، لكنها لم تغب عن ذهنه، لا زال يسترجع صورتها التي عرف وأحب، وصورتها التي رأى منذ لحظات، مسافة عمر تقف بين تلك الصبية التي توسل إليها مرارا راجيا أن يصنع من شعرها جديلتين طويلتين، وترد ببسمة دافئة أن جدائلها الطويلة ستخفي الكثير من ملامحها، وهذه التي عصفت به اليوم إذ مرت دون الاقتراب.


سارت بخطوات ملتبسة خلف ظل زوجها، أما هو فيسير الآن وحيدا في عشوائية الأمكنة التي يحبها، قرر أن يقضي بعض الوقت باحثا في فوضوية الأقمشة عن فستان إعجاب زوجته حين تعود من سفرها، طوى الأنسجة بين كفيه، وتفحص الألوان،اعتنى ألا يكون الفستان طويلا،فلامتداد ساقيها سحر يحبه،رغم أنها تتذكر كلل المساء من حاجتها الدائمة لارتقاء سلم كعب عال لتوازيه في مشيته،سيحتال عليها وهو يرى الاعجاب بين جفنيها،ويعرف أنها لا تدرك أنه اشترى لها هديتها من المتاجر الرخيصة التي لا تحبها،سترتديه، وربما يكون محظوظا أكثر فيحظى منها برقصة شائكة يتمنى عليها فيها أن تحرر قدميها من دفتي الحذاء،وهي تقترب منه أكثر وتهمس:" إن الذاكرة تحب أن ترى الصورة بكامل أناقتها، فاعتن بلحظتنا."

تعليقات

المشاركات الشائعة