صدى الروح

صدى الروح

يحسها بين ذراعيه تفتعل قوة وصلابة، وعدم اكتراث حين يعانقها، ويهمس في أذنها مناديا (سارة)،ويتابع بعبارات شائقة تحبها، على أنها ليست سارة التي يبدأ إليها الحديث،وينهيه بها أكثر الأوقات، ويعرف أنها بارعة في إشغال وقتها بأشياء تنسيها ذلك الوجع،على أن معالم وجهها تبقى محافظة على روح عتاب جميلة يحبها، ورغم أنه لا يسمع صوتها تعاتبه بذلك الصخب الذي يلمحه مجلجلا في تفاصيل وجهها، روحها الساكنة و ابتسامتها الباردة، فهو يحب خطأه كل مرة أكثر ويمتعه عتابها الهادئ.
يدرك تماما كم يتزلزل جسدها وجعا، إذا تسري فيه روح منه، تمتد في  شرايين كفيه التي تصبح أكثر وضوحا إذ يقترب منها، يتقد جسده بها،ويلقي عن كاهله عمرا شاقا ينزعه عن نفسه ويلقيه بين ذراعيها،فقد كانت كل بلاد افتقدها، وكل عمر سافر عنه بعيدا،تعلم منها تقمص تلك الروح المشاغبة المتشاغلة ، دون أن يدرك إن كان يتعمد خطأه كل مرة حقا، لكنه وفي كل مرة يناديها (سارة) ويستعيد في جسدها، وفي حدود خطوط عنقها الممتد مرتجفا تحت شفتيه، صورة سيدة أخرى، أول الحب، وأول الشغب ، و أول العمر الذي تفتح بين ذراعيه، ينآى  بوجهه عنها، ويمضغ حزنه بعيدا، ويشغل وقته في زوايا مطعمه، يقضي فيه وقتا طويلا، ، ويبقى قريبا منها وبعيدا عنها في آن، على أنه لا ينجز الكثير من الأعمال، إذ لديه عدد من العاملين الذين يقوون بالعمل، ويحب أن يسمع صخبهم وهم يتحركون في المكان، ويوصيهم بين الحين والآخر، تحدثوا بلكنة فلسطينية أحب أن أرى فيكم ما تبقى لي من بلاد، ويتأمل في الجدران والزوايا والكراسي الخشبية العتيقة، المنقوشة والمزدانة بصور شخصيات فلسطينية عربية، هي الزوايا التي اهتمت ( سماء) بها كثيرا، حفرت بعض الرسوم والكلمات في الجدران، وعلقت عددا من المعلقات.

 بين زاوية و أخرى اعتنت ألا تكون الجدران مساحة تعلق عليها ملامح وجوه و أشخاص،فنحن لا نحتفظ إلا بصور تبقى حية في روحنا، نجالسها على مساحة طاولة، ونترك لمساحات النضر أمامنا في الجدران امتداد للوحات تشكيلية، وصور ولوحات لأماكن وزوايا وشوارع، كانت ترى في الجدران مساحة ترى فيها اسمها( سماء) صورة أخرى للبلاد، وإن كان يناديها سلمى في كثير من الأحيان، ويفتعل ذلك كثيرا.  
أضاعت البلاد سارة، إذ أطبق الحصار مكبلا فضاء مدينتهم الصغيرة، هدوء صاخب في شوارعها، لك أن تسمع صوت مواء القطط واضحا، إذ تخلو الشوارع من العابرين، وتطبق أبواب المتاجر، أربعين ليل انقضى، وسارة كانت تجمع قطع الثياب والملابس المعلقة على الحبال، تجمع ملابسها الوردية القصيرة، تحب ارتدائها في ليال نيسان التي تقف بين ليل ربيعي دافئ، وصيفي متقد حينا آخر،احتد المكان فجأة، ارتفع أزيز الرصاص، باتت تلمح بعض الشباب يقفزون ويتعلقون بين سقف و آخر، محاولين الهروب من ضجيج القذائف، وقنابل الضوء الساطعة في عتمة المساء، كانت تجمع بعض ملابسه البيضاء متعجلة، محاولة الهروب من صخب المكان سريعا،تركت كثيرا من الثياب معلقة في عتمة المساء، لكنها لم تنزل الدرج الضيق القديم، ولم تطوي الأقمشة وتراعي كي كثير منها قبل أن تضعها في الخزانة، لكنها تكومت بين ملابسه،التي باتت متسخة ملوثة بحمرة دماء سلمى، وقد أصابتها بعض الشظايا المتناثرة في عبق الجو الهائج.
لم يكن المكان مساحة تستحق الحياة في غيابها، تأخر عنها ليلا إذ كانت تئن، وتنزل الدرج تزحف وجعا بين لحظة  وأخرى،في الصباح و إذ انسحبت قوات الاحتلال لبعض الوقت، وتركت المدينة تتنفس وجعها وتمارس حزنها، وتتسلل بين حين وآخر إلى حضن دفء تعيش في صدره الحب، وتحيا بين ذراعيه لحظات تحس فيه روحها متحللة من كل ألم.
(حين يطبق الوطن على روحك، تفتش في مساحات بلاد أخرى عن عمر جديد تعيشه)،كان هذا أول ما قاله ل سماء إذ التقى بها، لا تختلف حكايته عن تلك التي ترويها سماء، وكأن ما قاله يعنيها تماما،إلا أن الوقت يختلف بينهما،وتختلف الجغرافيا، لكنها روح الهوية  تجمعهما دائما،حملت وعائلتها ما تبقى في روح لاجئة عاشت حربا قاسية في لبنان وهاجرت إلى إيطاليا، لتكمل العمر في روح بلاد أخرى،مضغت الكثير من الوقت قاسيا مقلقا، قبل أن تبدأ عملها في الديكور والتصميم الداخلي،وفي فضاء العام 2002 غادر مدينته محموما بالألم،مشحونا بوجع خانق، تأخر عن سارة ليلا كاملا، بقي جسدها ينزف حيا، وصوتها يئن وجعا، إلا أنها سمعت صوته يطبق الباب ويدخل متجاوزا الممر.
لم تكن روحها تملأ مكانه صخبا،لم يسمع قرقعة الأواني و الصحون في المطبخ،لم يشم عطرا من بين الأقمشة والثياب،ولم يلمح لمعانا في أرضية منزله الهادئة،انتظرت عودته لتحس صدره قريبا منها، وترى في روحه قلقا ضيق يزدحم بالموت،لم تقوى على قول الكثير من الكلمات،مر بأصابعه فوق شفتيها، مشط لها شعرها، ترك لشفتيه التنفس بألم فوق خطوط رقبتها الممتدة،زينها بالورد والعطر، قبل أن يتركها تنام بهدوء، ويفتش في ازدحام الكون عن مكان آخر، يفتش لنفسه في عن عمر آخر.
يقلب محطات التلفاز، ويقرأ بين الحين والآخر خبرا هنا وآخر هناك، ويرى أعمارا جديدة للموت على شواطئ المتوسط،للموت روح تجدد نفسها كل حين، وتبقى مستعدة دائما لتسرق من عمر الوقت أرواحا و أحلاما و أمنيات، وتسرق حبا لم يتفتح في جسد سيدة، وورقا لم يكتمل، ووردا لم يتفتح.
غادر المكان وهو يرى في وجوه العاملين حوله صورة تشبهه، إذ كان يطوف بين الكراسي والطاولات في كثير من المقاهي والمطاعم، قبل أن يمضي عمر يسمح له بافتتاح مكانه الخاص، هناك إذ كانت سماء تزين له الأروقة والجدران، وتضمد له ما لم يلتئم من جراح مضى فوقها سنين، كررت ما قاله  لها : (حين يطبق الوطن على روحك، تفتش في مساحات بلاد أخرى عن عمر جديد تعيشه) قبل أن يبنيا معا عمرا جديدا لهما.
استيقظ في نفسه خوف جديد،نظر في ساعته، لن يتأخر اليوم أيضا عن سماء، طوى الشوارع متعجلا،كان يفكر بكل ما عليه قوله إذ يراها، ربما يقرأ على مسامعها كثيرا من الذكريات، وعله يستحضر في روحها كثيرا من الألم الذي تجاوزه بها، فكر كثيرا إذ يطرق الباب وينتظر أن تفتحه له،لم يستل المفتاح مع علاقة المفاتيح التي يحملها، ستفتح له الباب وسيحاول أن يجمع ما تيسر في روحه من دفء يعيده إليها،على أنه يعلم أنه سيكتفي منها بنظرة لامعة في عينيها،ليفتش في مساحات ذراعيها عن بلاده الأخرى وعمر جديد يعيشه.   


تعليقات

المشاركات الشائعة