فردوس البلاد المفقود


على مسافة من الوقت الذي جاء فيه إعلان الرئيس الأمريكي ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في إشارة استفزازية مباشرة يعلن فيها صراحة رؤيته لمدينة القدس " مدينة الله" عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، جاءت ردات الفعل الشعبية والمحلية في الأرض الفلسطينية، من أبناء فلسطين الشباب،جيل نشأ و ترعرع في ظل عهود السلام الكاذبة، و تجاذبات طاولة المفاوضات، التي لم تكن تفضي بأكثر من إضاعة مزيد من الوقت، وكل طرف يحاول جذب مفرش الطاولة إليه أكثر، عله يغطي به ارتباك كفيه، ونمنمة أصابعه، واصفرار وجهه،إذ يعلم تماما أن خلف أبواب التفاوض المغلقة شعب بذل كثيرا من الروح، كثيرا من الدماء، أعوام من الكد والشقاء،وسنوات تدحرجت أمام عينيه قاسية باردة خلف قضبان السجن، في معتقلات الاحتلال، لا لتهمة تذكر، إنما أنه شعب أحس فردوس بلاده المسروق حقا يطيب لأجله رهن سنوات العمر عله يعود.

لقد شهد مطلع العام 2018 خلال شهر كانون الثاني  أعمالا نضالية كفاحية موجهة ضد الوجود الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ورفضا واضحا من هذا الجيل الشاب لكل خطط الاحتلال في التوسع والتمدد في الأراضي المحتلة، والضرب عميقا في جذور الهوية الفلسطينية،حيث أن محاولة الدول الهيمنة المساس بالحق المقدس لأبناء الأرض المحتلة، أعادت إلى ذهنية كل فرد حقه التاريخي الذي لم يغفل عنه يوما، وإن حاول خلال كفاحه التنوع في أدواته، والتوسع في مداركه في اتجاه توظيف الوسائل التكنولوجية والتقنية والصورة والصوت و والتسجيلات الرقمية لتكون دالة نضالية جديدة، و أداة يكمل من خلالها ما بدأ به آباؤه و أجداده في نضالهم، واعيا دوما أنه وإن غير الأداة، إلا أنها بوصلته الثابتة الراسخة، و هويته وجذور انتمائه و إيمانه بحقه، حقائق ثابتة لا يغيرها الوقت، ولا تعبث بها أجندات السياسيين وبرامجهم المختلفة.

تنوعت صور رفض القرار الأمريكي بعد الإعلان عنه، فنجد أن كل مدينة و قرية فلسطينية بدأت تضخ في عروقها دماء، توقظ بها هويتها النضالية الخاصة، التي مر وقت خفت فيه نجمها سيرا باتجاه الانشغال السياسي بتسجيل بعض الأهداف الدولية، وجمع بعض النقاط على الورق وحسب، بينما تبقى الأرض رهنا للاستبداد ودوما في مرمى الاحتلال، و في مناظيرهم، قدمت القرى المسلوبة بفعل جدار الضم والتوسع نماذج حية من الاحتدام مع العدو مجددا وبشكل شبه يومي، بعد أن كان مجرد حدث تقليدي في ختام نهاية الأسبوع،لا يفضي إلى شيء، ولا يثير حفيظة الجنود بعد أن اعتادوا الطقس، والوجوه، والمطالب التي لا تجد أذنا مصغية محليا و عربيا و دوليا، وقد كان التصرف العفوي العادي من طفلة ترفض اقتحام جندي إسرائيلي أهوج لمنزلها بأن صفعته و دفعته خارجا، التصرف الطبيعي الذي قد يفعله كثيرون لرد أي متطفل أحمق عن باب منزله،صنع الاحتلال منها  الجريمة الكبيرة التي رهن عهد التميمي إثرها تحت قيد الاعتقال، ليسجل بذلك الاحتلال انتهاكه الصارخ لحق المقاومة المشروع وبكل صوره، الشعبية والسلمية و العسكرية منها، وهو بذلك بقصد أو بغير قصد أحيا في الفلسطينيين ذلك الصوت البعيد في سجلاتهم التاريخية، وبما يضمنه القانون الدولي : ( إن مقاومة و مواجهة الاحتلال حق مشروع ومكفول وبكل الوسائل والطرق) .

التحرك على الأرض جاء من شباب فلسطيني رافض و بقوة لكل أشكال إلغاء الحق الفلسطيني بالبقاء والثبات على الأرض، وزعزعة صورة القدس كقضية راسخة لا تقبل المساومة، توجه الفلسطينيون بإرادتهم الحرة ودون تنظيم أو تعبئة جماهيرية أو  فصائلية، ودون خطة نضالية مرحلية تقودهم، فكان النضال العفوي الحاسم بالاصطدام المباشر مع صورة العدو المغتصب للأرض في المستوطنات، فكان الاحتدام وقتل المستوطنين وتنفيذ عمليات طعن بالقرب من المستوطنات، وفي الشوارع المؤدية إليها، وقريبا من نقاط التماس والاحتكاك، إذ يورد موقع الجزيرة الإخباري في الثامن عشر من كانون الثاني 2018 ارتفاع أعداد شهداء فلسطين إلى واحد وعشرين شهيدا  و خمسة آلاف وستمائة جريح  مصاب فلسطيني منذ إعلان قرار ترامب، وذلك بعد استشهاد الشاب أحمد إسماعيل جرار(31) عاما بعد اشتباك مع قوات الاحتلال في منطقة واد برقين، وذلك ضمن حملة شنتها قوات الاحتلال ولأيام طويلة بحثا عن الشاب أحمد نصر جرار بعد قتله مستوطنا شمال الضفة الغربية بالقرب من نابلس .



لأسابيع ظلت قوات الاحتلال محمومة بذلك الشبح الذي قتل مستوطنا قريبا من نابلس، المناضل الذي لا تدركه،ولا تكاد تعرفه، تبحث، تنفض الأرض، توقظ الليل و تقض مضجع ساكنيه، بقواتها، و آلاتها، و تحركاتها،تستعمر الجبال، تنبش الأرض، تفتش التراب، وتعتقل أعداد كبيرة من الفلسطينيين في فترة زمنية قصيرة وتحت ذات الطائلة، البحث عن المناضل أحمد جرار، الشاب الذي أربك و لشهر كامل قوات الاحتلال، تداهم، تغلق المداخل، تفرض منع التجوال، تنصب حواجز عسكرية، تيقظ الليل شغبا، وهو يفر من قبضتها كل مرة، ويخلق لنفسه عمرا جديدا، وهو الوطن يبحث لنفسه في كل مرة عن مساحة امتداد جديدة، وهو ابن البلاد وفي أعينها.

تحت جنح الليل، بعيدا وحيدا، وفي مكان مهجور، على أطراف بلدة اليامون، حيث لا كثير من المارة في المكان، لا أشجار وافرة مواربة تغطي المكان سترا، وتحفظه سرا في قلبها، ووحيدا وحيث لا أحد ظلت بندقية أحمد جرار و رصاصاته القليلة تجيب صخب رصاص الاحتلال، وكثرة عدته و أسلحته و ترساناته، لا يسكنه الخوف، ولا يقترب منه، إذ يجد نفسه مدججا بالإيمان بالحق بالبقاء بالمقاومة والإصرار على المواجهة حتى النفس الأخير.

الثلاثاء الصعب في أجندة البلاد، إذ تستيقظ فجر الثلاثاء في الرابعة مساء على نبأ استشهاد جرار، الخبر الموجع الذي كابدت الساحات تصديقه، حيث ظلت وكالات الأنباء المحلية، ووجوه العابرين في الشوارع ذاك الصباح، والمستمعين لهدير صوت المذياع، يفتشون لأنفسهم عن مخرج ما علّ الأخبار تكون محض احتمال هذه المرة، محض نكتة بشعة في غير موعدها، إذ شكل جرار بالنسبة لجيل شاب جديد استيقاظة واعية لروح البلاد في جسد البلاد، البلاد كل البلاد لنا، لأبناء المخيمات، لفلسطيني الشتات، وفلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948، حيث وعلى مسافة أيام ينفذ أحد الشباب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عملية طعن لمستوطن قريبا من سلفيت.


صباح الثلاثاء اليوم الذي كانت قد قررته الفصائل ليكون يوم تعبير عن الغضب قريبا من نقاط التماس، جاء مختلفا، ودون حراك من الفصائل و كوادرها، هكذا ودون أن تطوف الفصائل بكوادرها و بمكبرات الصوت تسأل التجار وأصحاب المحال التجارية إغلاق محالهم حدادا، و دون أن تعلن الإذاعات والكتب الرسمية في الدوائر عن تعطيل دوام إضرابا، اعتراضا على هذا السبب أو ذاك القرار، أو رفضا لزيارة هذا الشخص أو ذاك، كان صوت الشارع العفوي الإنساني الوطني أقوى، فالشوارع ساكنة  لك أن تسمع صوت دبيب النمل فيها، ولا باعة متجولين يصرخون بحثا عن قوت يومهم، فيومهم اليوم ألم، ساعات قليلة وكانت الشوارع ساحات غضب، ليس لك أن تعرف كيف احتشد كل هؤلاء الشباب، طلابا وطالبات خرجوا معبرين عن حجم ذلك الفقد في النفس لديهم، وطافوا المكان انتماء وشوقا لهذا النموذج النضالي الحر، أكثر مما طافوه حزنا و شجنا لروح صارت تسكن الكثير منهم.

والبلاد مساحة مفارقات بين روح الشعب وصوته، وبين ذلك الصدى البعيد البعيد في الأفق السياسي، والسيادي والقيادي،فالثلاثاء أيضا كان اليوم الذي استقبلت فيه القيادة الفلسطينية عائلة عهد التميمي في تحية مباشرة وواضحة منه لنهجها النضالي، بينما لم تلتفت بشكل رسمي لما يواجهه الشباب الفلسطيني في احتدامه مع الاحتلال،لم يتقاسم مع عائلة جرار قلقهم على ابن غض تطارده قوات الاحتلال تحت برد الشتاء،المسافة حلم الحرية، صوت منظمة التحرير التي عدنا مؤخرا نسمع بعض بياناتها، ونقرأ بعض مطالبها، و نحس و كأنها عادت لتولد من جديد في الدماء الفلسطينية، وبين صوت القيادة، والرؤية الخاصة بالواقع الحالي لهبة القدس و كيفية ترجمة ما يجري على الأرض، لتصب دماء شهدائنا في روح الوطن، ولا تذهب ككل الذين ذهبوا سابقا في نضالنا الطويل هباء، إذ لا زال فردوس البلاد مفقودا، ولا زالوا يعودون بها إلى الوراء .   





تعليقات

المشاركات الشائعة