ورشة الكتابة المسرحية و اكتشاف الحواس


ورشة الكتابة المسرحية و اكتشاف الحواس
سعاد شواهنة
 ماذا تقرأ هذه الأيام؟ كان هذا أول ما جاء تحت ناظري هذا الصباح وأنا أتصفح شغب صفحاتي والمواقع الإلكترونية، وقد كان هذا كفيلاً بأن يحمل لي صدى فكرتين، الأولى أن هناك العديد من الكتب والمخطوطات التي بدأت قرأتها ولم أتمها بعد، أما الفكرة الثانية فكانت حالة من الهذيان في الفهم لكلمة قراءة، فهي ذلك الفعل الذي يمكن سحبه على أكثر من بضع صفحات، فالواقع يُقرأ،والتاريخ يُقرأ، والتجارب، والبشر، والشجر، والحجر، وخطو أقدامنا يُقرأ أيضاً.

باختلاف الوقت يتغير فهمي الذاتي لمفهوم الكتابة و كينونتها، وتلك الدوافع التي تحذو بنا أحياناً للكتابة كما لو أننا سيل جارف، أو نبع ماء دفاق، وتلك العوارض الأخرى التي تجعل منا ومن أقلامنا وإن امتلأت حبراً جدولاً لا ماء فيه، أو بحيرة جفت ليس بفعل ممارسات الاحتلال وجبروته على أي حال، ومحمومة بتلك الأسئلة عن كيف تتوالد الأفكار نصوصاً، وكيف تنضج حاملة الكثير الكثير من ذواتنا، خضت ولمرات عديدة تجربة الانضمام إلى مجموعات و تدريبات منهجية معرفية علمية متخصصة في مجالات الكتابة الإبداعية القصصية والنقدية و المسرحية .
مأخوذة بفكرة الكتابة المسرحية، وبذلك الصدى الذي تحدثه الكلمات حين أسمعها تتردد على خشبة المسرح، فأومن أن تلك المساحة الصغيرة ما هي إلا بضع من مساحات كبرى تتجول في شوارعنا و طرقاتنا، و تنام فوق أسرتنا، و تتبادل المجاملات مع الجارات صباحاً، و تكيل الشتائم وتشتم حظها العاثر بعد كل حفرة تقع فيها، و إثر كل بالون يطير من بين كفيها عبثاً، التحقت بورشة التدريب على الكتابة المسرحية من خلال مشروع تنظمه مؤسسة عبد المحسن القطان، وكان الأمر أشبه بصياغة أخرى للوقت، تماماً كما لو أننا نحيك سجادة هندية تحمل كل هذا التنوع والاختلاف والتضارب والتنافر في الألوان، على أنها في النهاية سجادة جميلة، مختلفة ومغايرة، و تستحق الوقوف  أمامها لبضع وقت، وربما تعجبك، فإما أن تزين بها حائطاً أبيض بارداً، أو أن تلفها بكل ما فيها من تنوع و تحتفظ بها بين كنوزك الثمينة، وتجاربك.

اكتشاف الحواس الخمس :
خلال أحد عشر يوماً تدريباً أحب أن أصفها بالمكثفة، ليس استعراضاً للجهد، ولكن لتلك الدقة التي كانت تدفع شخصاً كسولاً مثلي للاستيقاظ، و الإنصات لروح المكان، و صداه، ومتابعة المهام واحدة بعد أخرى،أحد عشر يوماً  كانت مساحة شاسعة و منصفة للتنقل بين أحد عشر كوكباً لكل واحد منها تجربته، ورؤيته و طريقة تفكيره، و ذلك الأسلوب الذي يرشح من خلاله بما لديه من الآراء، دائرة أكتشف فيها حواسي الخمس.
أرى :
حين يفسر علماء اللغة الرؤية يقسمونها إلى رؤية قلبية، و رؤية حقيقية مادية، رأيت الأولى في صورة فاطمة ترسم بروحها، بامتداد نظرها و اتساع ذراعيها مرة، و اختناق ركبتيها و تكورها حيناً آخر، وهي تكون بين ذراعيها قصصاً تمشي كل يوم بيننا، و تبحث في اختلاجات النفس، وتضاربات النفس و أوجاعها،أما الرؤية الثانية فكانت تلك التفاصيل الدقيقة التي تراها تمشي في أحاديث الناس و أفكارهم، في صوت علي، وكم كان حقيقياً وهو يصنع تلك الانتقالات السلسة بين موقف و آخر، و أرى الشخصية تمتد منتقلة بين جملة  و أخرى.
أسمع:
 سمعت :  سمعت في صوت غسان سردا ً يحكي البلاد، ويروي تفاصيل إقامة جبرية قاسية مؤلمة، كيف يصنع من البيت سجناً، هذا صوت لا يبتعد و ينفصل كثيراً عن رنين صوت محمود و انعكاس هويته في صورة  وجسد النص إذ يحكيه، و يروي حكايات حارات ضيقة، و شوارع لا يعرف كثيرون أسرارها المعلقة على أعمدة الإنارة، لم تكن البلاد بعيدة و كأني أسمعها وفي صوت كلماتهم، في ذلك الوقع الذي تحدثه الكلمة في النفس،وقع جميل يفوق ما تحسه من حنين و أنت تسمع عبر تقارير و ريبورتاجات يومية، صوتاً في أسواق الأردن الشعبية، فتلتفت وتقول هذا مقدسي،فهو على هذه المسافة القريبة من الحلم، و نحن الوحيدون من نحمل هوياتنا في تفاصيل يومنا الصغيرة في معاصما و خطوط يدنا، وتضاريس الوجه و أحرف الكلمات. 
أتنفس :
 أتنفس في كلمات صالح روحاً تتجول في طرقات الذات الضيقة، و تجوب النفس عمقاً، لم يكن ليأخذني النص في جولة أمشيها في الشوارع والطرقات، أتأمل فيها أبخرة الشوارع و أسمع ضجيجها، لكنه كان تلك الروح التي تحفر عميقاً فيك إذ تجعلك تتنفس رحيق نفسك، و تشم عطر روحك الداخلي، عطرك الفاخر أحياناً، والمبتذل المتردي حيناً آخر، و أتنفس حياة يشعلها نص سهيل شغباً إذ يرسم البلاد و ارتدادات الغربة،  و أنين الاغتراب في صومعة بيت صغير، و أحاديث تئن حنياً و تصخب قهراً.
ألمس : حين ألمس يتعدى الأمر حدود النصوص، ووقعها في الذات، اللمس تلك الحاسة التي تجعلك على مسافة الصفر من الأشياء،أحبها لكني أعد العشرة، و ينقضي الوقت قبل أن أفرغ من العد فأبدأ باللمس والاستكشاف،في صوت مرينا لمست زوايا المكان، واكتشفت أني لا أكاد ألمس الفرق بين شجر الصنوبر والسرو، وأعزي نفسي فأقول أنهن ينتمين إلى العائلة الحرجية ذاتها، وألمس الأماكن الضيقة، و اكتشفت ملمس الأشياء لغة تحكي الكثير،ونحن بعض من أوراق أشجار، و عمر حكايات ورد، و ألمس في صوت رزق جدران الشوارع، و صخب الطرقات، وشغب العابرين، و أوجاعهم، وفرحهم الخارج دوماً على قيود النص،جسر كلمات طويل كان سيبقى معلقاً في جوف شفتي، إذ سأتأمل الأشياء كثيراً، و سأغيب في التفاصيل، و سأعقد هذه الموازنة غير العادلة بين كل التفاصيل و ما تختزنه ذاكرتي، و كنت سأملأ نفسي بكل هذا، و أحمله لها دون أن أحاول إحداث صخب، حين سمعتك تذكرتك تلك القاعدة التي أحفظها دون أن أجربها كثيراً إذ تقول : " إذا ضاقت بك الحيلة أمام مساحات صمت من أي شكل كان فافتعل صخباً بالأسئلة"، لا أكاد أعد تلك المرات التي بذلت فيها هذا الجهد و أنت ترسم الأسئلة و تحرص على صوغها بنهايات مفتوحة لا يمكن أن يكفي معها قول لا أو نعم باقتضاب، فكنت قادرة على خوض تلك المغامرة التي لا أجرؤ على فعلها كثيراً، فأترك لك أن تبدأ بكتابة نص ما، و أثق أن نصاً سأكتبه سيكمل ما بدأته أنت، و يتمم نص الصورة، ولا يكررها، ولا يذهب بعيداً عنها كأنه من قارة أخرى.
أتذوق:
رؤى و إن كانت تحمل في اسمها مساحات و أفق للرؤية و اختلاف و تنوع الرؤى والوجهات، إلا أنها تلك الشقية الجميلة التي أتذوق في نكهة كلماتها طفولة اتفق أن تكون طفولة مسؤولة موجهة، لكنها ظلت تختزن تلك الروح المفعمة بالحياة والتفاصيل الجميلة، تذوقت معها اختلاف نكهة أشخاص عرفتهم و عرفتهم، أما أنا فحدث أن التقيتهم مرات و تجاذبنا بعض أحاديث و نميمة و أفكار أخرى، بينما ظلوا بعض حبر على ورق تتصفحه رؤى، وتختلف نكهتهم، ولا أدري تماماً من منا على حق، و تذوقت معها اختلاف نكهة الشوارع طيبها، و صوتها، و نبشت معها ذاكرتي و انتبهت أني لا زلت أعاني نسيان التفاصيل اليومية الصغيرة فأنسى أين وضعت دفتري، ويغيب عن ذهني اسم أحد بينما أتذكر ملامحه و كل حديثه، فأجدها تهمس لي الاسم و تنعش بعض ما غاب عن الذاكرة.
وعرفت نكهة الكلمات مع دالية، بتلك الدقة التي كانت تنبش فيها  عن مرادف جامع مناسب يروي ما تفكر به و يصل بهذه القوة وذلك التأثير الهادئ والناجح في دفعك بضع خطوات إلى الأمام، ولم أكره ذلك الهدوء في نفسي و تلك الروية لأول مرة، فقد تذوقت فيها نكهة التروي والسكون، هي بتلك الدقة و ذلك الانسجام.





تعليقات

المشاركات الشائعة