موسيقى اللون


موسيقى اللون
تقترب اللحظات غياباً،ولا زالت الروح لوحة لم تكتمل خطوطها، صورة لم تكتمل، وجهاً  لم ترسم تعابيره، تنفست الصباح موسيقى كلاسيكية مرتخية، في أسطوانة موسيقية قديمة لم تلتفت إليها منذ وقت طويل، ولا تدرك تماماً ما الذي حملها إليها هذا الصباح، الموسيقى الكلاسيكية التي كانت تيقظ بها الوقت، و تستقبل الصباح بشغب يثيره  مروان بحضوره، إذ يتجاوز الرواق الخارجي و يجلس متفحصاً فوضاها، كراكيبها المبعثرة بعد ليل هادئ إلا منه، يشرب ماء دافئاً  ويدخن بعض السجائر، ويشكر ذوقها الكبير إذ تعتني بحضوره، وذائقته الموسيقية الغريبة، و تضع هذه الموسيقى في الصباح، و يذكرها أن ألا تنسى موعدهما معاً هذا المساء، إذ يتوقع منها أن تساعده في إعداد وترتيب لوحاته، قبل موعد افتتاح معرضه.
مضى وقت طوت فيه هذه الأسطوانة الموسيقية الكلاسيكية و أهملتها، إذ تصحو بكسل كبير ينام بين جفنيها، ويصحبها  حتى مساءاتها الصاخبة، تسمع رنين حذائها يدق في الشارع محدثاً موسيقى مشاكسة، غير أنه ليس حذاءً بكعب عالٍ، لكنه كفيل بإحداث ذلك الرنين الذي يذكرها دائماً أنها على متن الحياة، تجوب الأماكن، تقلب الوقت في ثنايا بعض الأقمشة والحلي، المجوهرات و هي تمر في الطرقات، والأسواق، و تنثر المجاملات الباردة و التحيات منزوعة المعنى، كلمات باردة تماماً في وقت عاصف، يظل الوقت صاخباً، لكنها تحتفظ بروح حرة خارج ضوضاء الوقت، و تسير دون أن تزين أصابعها بأي خاتم أو أسورة،كما أنها تحرر نفسها من الوقت، فلا تهتم بارتداء ساعة في يدها.

أعدت نفسها بكثير من الزهد، تجاوزت بنطالا  أسود و قميصاً أبيض، كانت قد كوتها وأعدتها أمس، و اختارت فستاناً قديماً، يجلس في زاوية خزانتها،إذ لم ترتديه منذ وقت طويل، إذ كانت تكبح جماح ذاتها كلما اقتربت إليه، و تقول :"لا هو غير مناسب ليوم عمل طويل، إذ يكشف جزءاً يسيراً من ذراعي، وبعضاً من ساقي." لكنها كانت تحبه، فهو آخر الهدايا التي قدمها مروان، قبل أن يسافر منذ بضع أعوام، كان رحيله هذا الوجع الذي لازمها طويلاً، كانت تنتظر حضوره كل صباح، تصغي إلى رواقها الهادئ، و تنظر إلى سكونه و تفتش عن صوته  وهو يتجول في أماكنها  وفوضاها، لكنه لم يعد هنا.
دخلت رواقها الصغير، هادئ هو أكثر الأوقات، محترفها الساكن في علية منزل قديم ورثته لأمها، و اعتنت بكل تفاصيله، الشاحبة والهادئة، ببرودته اللاسعة،ودفئه صيفاً،و شبابيكه الصغيرة العالية، وحجارته الكبيرة الصفراء والبنية أحياناً، بعمر الوقت فوقها، للأماكن روح تحس ساكنيها، و تظل روحهم هناك، وفي كل نهار تحييهم عند دخولها المحترف، تحس عطر جدتها في غربال عتيق كانت تغزل به خيوط الشمس وهي تنثر حبات القمح، وتعود ثانية لتردها إلى دفتي الغربال، و تفرش سجادة والدتها الملونة، و تتذكر كيف كانت تجلس والدتها خلف النول لساعات يسيرة عصر كل يوم، لتتم صفاً أو صفين من الخيوط الملونة، للأماكن ذاكرة، ولكل ما يسكن فيها روح لا تغادر أماكنها،تغير بعض ملامحه آخر كل نهار، تبدل أماكن أصيص الزرع، والمرايا، والتحف، والنحاسيات، وتعود كل صباح، فتعيد المكان صورته الأولى، و تهدئ روع نفسها، فللأماكن هوية أيضاً، وبصمة صاخبة في النفس.
بدأت تشغل نهارها، وتعد تصاميم عديدة، جمعت الكثير من الأحجار ة القطع الملونة،وقطع الزجاج بأحجام و ألوان كريستالية عديدة، ورصفت به لوحة تعدها للمشاركة في معرض فني دولي يقام في فلسطين نهاية العام،صورة للوحة زيتية رسمها مروان بألوان  ترابية خشنة، لمنزله الصغير، وبعض الأشجار و النباتات الصغيرة التي لم تتفتح بعد،فقد كانت في أول برعمها، كان يخفيها كلما دخلت منزله، يمضغ شفتيه، ويقول : " أرسم صورة لصبية جميلة، ستشتعل غيرتك " كان مروان يحب هذه اللوحة كثيراً، لا زالت تذكر كيف حملها إليها بألوان رطبة لم تجف بعد، حال انتهى من الرسم، وقدمها لها، قائلاً :" ستكونين أنت حارسة ما تبقى من منزلي، هذه الصورة و حسب، لم تفهم تماماً ما قاله إذ ذاك.
اقتربت من لوحتها الفسيفسائية  وهي تسمع صوت مروان يدق صداه ذاكرتها ،إذ يقول كلما رأى اللوحة تزين جدار منزلها: " يصبح للصور صوت صادق و عالٍ بعد لحظات من الفقد." تقترب الآن منها كما لو أنها تقترب من منزله، الذي لم تقترب منه منذ سنوات، إذ سافر هارباً من ضعفه،من جبروت الوقت إذ لم يقوى على حماية جدران عاش بين طياتها سنوات عمره كلها، و رسم فوق حجارتها، وتعلق فوق حبال الغسيل، ولا يذكر أبداً لون باب منزله، ذلك الشقي الذي كان يهوى القفز فوق السور صعوداً و هبوطاً، فلا يجد حاجة ليحمل مفتاح المنزل، أو أن يطرق الباب فيزعج أمه، و يحملها على السير بضع خطوات فوق أرضية ساحة منزلهم الخشنة، يقفز صعوداً و هبوطاً فوق سور قصير، يطل على ساحة منزل متواضع، تتناثر فيه الحجارة، و أحواض الزرع.
لم يبق من المكان غير صورة تعلقها في صالون منزلها، و أخرى تعدها بكثير من الألوان و أنواع الحجارة، تجهزها بعناية فائقة لتكون إحدى لوحاتها في المعرض الدولي، تهتم بكل التفاصيل، بدقة و عناية إذ تسلل لمسامعها أن مروان قد يكون موجوداً هناك أيضاً، تألم كثيراً، إذ جرفت السلطات منزله، اقتلعت ذاكرته، دفنت كثيراً من حلمه بين التراب، و اختفى المكان تماماً خلف سور لا يشبه سور منزله، فليس حجرياً قصيراً يمكنه أن يقفز فوقه عالياً بسرعة فائقة،دهر بين منزله والسور، دهر لم يقوى معه إلا على السفر، فللأماكن ذاكرة، لأحواض الزرع، والأشجار ذاكرة، للجدران ذاكرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة