حكايا من القرايا... حكايا بصوت مسموع


حكايا بصوت مسموع: 

يقدم حكايا القرايا عدد كبيراً من الحكايات التي توثق لسلسلة من نبض الحياة اليومية و التفاصيل الصغيرة و البسيطة جداً، التي تمر في لحظات اليوم، فيعكس من خلالها صورة لتراث إنساني و حضاري، قبل أن يكون تراثاً شعبياً، و عبر ما يقارب الثلاثمائة صفحة يقدم سيلاً من الحكايات تقارب مئة و خمسين حكاية، تمتد عبر صفحتين تقريباً، و هي حقاً حكايات بصوت مسموع، كنت قد قرأت صفحات الجزء الأول من هذا في بداية شهر آب من العام 2024، أحسست حقاً حينها أن الكاتب(الراوي) عمر عبد الرحمن يجلس كعادته في لقاءاته الثقافية، و يروي بسرد دقيق و سلس، و بصوته الغض حيناً  و الصلب حينا آخر، يروي مهتماً بأدق التفاصيل، و ملتفتاً إلى أحد الحضور، يذكره بذلك اليوم، أو بتلك الحكاية، أو بذلك المشوار، أو الصديق.


بساطة الحكايات و تاريخنا:
في التاريخ نسمع عن القادة، عن تلك المعارك التي خاضها الجنود تحت راية القائد ومن أجل روح الوطن، نسمع التاريخ من القادة إن نجوا بأرواحهم، فيسردون على مسامعنا صورة كلية عامة عما كان يحدث، و تبقى كثير من الحكايات صامتة في حناجر الجنود، المقاتلين الشجعان، طي شجرة وارت بجذعها صنديداً صلباً، أقرأ اليوم الكتاب ( حكايا القرايا) ثانية وهذه المرة بوعي جديد حيث أرى تلك الصورة التي يقدمها الراوي لأولئك الصامتين الذين لا نصغي لحناجرهم عادة إذا تحدثوا، و هل يتحدثوا، حكايا القرايا رصد أصوات حناجر لا ندري ماذا يقولون عادة، ليس لأننا لا نسمعهم، بل لأن أحدا لا يهتم لكتابة التاريخ و التراث من زاوية البسطاء، فالكاتب هنا لم يكن باحثاً و راصداً و منظراً، و لكنه كان لائماً ووقع في فخ الندب الذي نقوم به عادة في معرض حديثنا اليومي، فكلما التقينا أبناء و بنات الجيل الحالي، تجري على ألسنتنا ثرثرة الندب عما كنا عليه، و عما ألو إليه!


صوت التراث و نغمات الكلمات:
في الكتاب موروث جميل من الكلمات التراثية القديمة، التي فسرها الكاتب فكان فهرساً للعديد من المفردات،وقد وضحها في متن النص، وربما كان جميلاً لو أنه أفرد هامشاً في صفحات الكتاب، أو أحد أبوابه لتفسير الكلمات، حيث أن فكرة جمعها في باب واحد أو فهرستها، ستشكل إضافة مرجعية قيمة للكتاب، و تنقله من ميزة الكتاب الأدبي التراثي، إلى ميزة الكتاب المرجعي المعجمي أيضاً، وقد ورد هذا في العديد من الصفحات مثل مثل الحديث عن الكسيبة، و كبارات الشيد، والروزنا،اللويح، القشاني،الطمرجي، باهشة،المتبن، طقيطقية، دبسية وغيرها من الكلمات التي وضحت خلال المتن.


الأمثال الشعبية و جاذبية النصوص: 
استخدم الكاتب العديد من الأنماط الأدبية خلال السرد، فأحياناً يبدأ نصه بمثل شعبي جاذب و يسند الحديث إلى غيره فيقول: حدثونا في المثل الشعبي " إللي استحوا ماتوا.." " اليوم حابس" " رعية يوم تياسة سنة" وفي أحيان أخرى يستخدم نمطاً يشبه المقامة البغدادية فيقول سألني فلان...، حدثني صديقي قال،حدثني صديقي محمد المفلح، و ينوع في أساليب السرد بين الراوي كلي المعرفة و الراوي محدود المعرفة، فيكون هو ذاته الراوي حينا، أو أحد أصدقائه في حين آخر ، كالراعي أبو سعدون، و أبو عنتر الجنيني، و الحج محمود و غيرهم من الأسماء و الشخصيات الاجتماعية.
 

حكايا القرايا تمتمة النساء: 
صوت النساء في سرديات عمر عبد الرحمن تنوع و تعددت أوجهه، فكانت صورة المرأة القوية الثابتة أم الأسير و أم المغترب التي تشد الهمم، و تعلي الرايات:" الله طرح البرتشة يما...اصحى تبرد يما...و لا تهمل همنا يما"، وفي زاوية أخرى نرى صورة الفتاحة، ونسمع صوتها و نراها في قاع الدار، مهيوبة، تستدعي الأسياد، و يخطئ قالها بعد عام مما تسببت فيه من القطيعة بين أم أحمد و بيت أخيها، و الحكايات بين الضرة و الضرة، و الكنة و حماتها" و الله من يوم شفناها ( تقصد العروس) ما شفنا الخير على وجهها، وهي بوقتها وقبل تفوت الدار، حملوها ورقة الليمون و العجينة عشان تطبعها على شاشية الباب، قامت العجينة سقطت من أيدها... " و تميز في تسجيل المواقف من زوايا مختلفة فمرة يروي القصة من زاوية الكنة، ومرة من زاوية الحماة، و أحياناً من زاويته الخاصة كناقل للحدث. 


حكايا القرايا غياب الحاضرين:
 الحضور و الغياب ديناميكية أخرى يقدمها الكاتب في نقد اجتماعي حاد حد الوجع  و ساخر حد الموت، يتكئ عمر عبد الرحمن على المسافات، فأحد أبناء العموم ( أبو عماد) سكن إحدى العمارات في عمان، مرض، تعب، جاء الإسعاف، عاد الإسعاف، توفي، و الجارة على الشرفة المقابلة بالكاد تعرف، و برشاقة الجمع بين الأزمنة، استدعى الكاتب الماضي وعلاقات الجوار، و عاد ثانية إلى اليوم و طبيعة العلاقات، إضافة إلى الحوارية المباشرة مع الجار المتوفى من أبناء العمومة فكأنه يستدعي شخصه و يواسيه.


حكايا القرايا كتاب تراثي يتضح في غلاف جزئه الأول صوراً لمنازل متراصة متلاصقة، و تظهر صور لنساء في مسيرهن اليومي في مواسم جني الثمار الحصاد، فالمرأة هي الحكاية، وهي صاحبة الرواية، و هي ناقلة الخبر، وهي من تصنع التغيير في حراكها الاجتماعي، ومن تصنع التداخل بين الأهل و الأنساب.
 


تعليقات

  1. دمت وابدعت دمت ودام قلمك الصادق بصدق حكايه الاباء والجنود المجهولين

    ردحذف

إرسال تعليق