أهازيج الصباح


أيقظت الصباح تسلي وحدتها ببعض الأهازيج.  أشرعت نافذتها المقوسة على فناء منزلها، تنفست صوت الحجارة وهي تدور برحاها، بين كفيها السميكين أخذت حفنة من الدقيق تذروها، كما وشاح يتطاير في مساحة الفراغ، تلون خطوط يديها المجعدتين بالحنطة، فلا تكاد والحنطة تعكر لونها كفيها، وكان الحنطة تستقي لنفسها شيئا من عتمة كفيها.
   لعهد طويل عنت لها راحة اليد الكثير، لقد تصفحت العديد من الأكف، وقرأت في خطوطها ما رأت فيه شيئا من المستقبل، لم يكن نحتاج لمحو أمية ما ، حروف بكفها غرست أشجارا وبعض الورد في حديقتها ، وروت تربتها ببعض ماء، ومرت على خيوط الصوف تعد وشاحا ، وتنسج من الصوف أشياء تضيء بها عتمة وقتها بكفها رصفت الحجارة سورا يحيط بخضرة حديقتها.


رتبت زوايا منزلها الهادئة ، ولم تكن تحتاج للترتيب ، لكنه طقسها اليومي ، مرورا تهديه كل صباح لأوانيها القديمة ، وجرار الفخار التي لم تكن تملاها بالماء، تتنفسها كل يوم ، وكان هذه الأشياء تقلدها لعمر جديد صباح كل يوم .


وحين يطبق التعب فو جسدها المترهل، تجلس في ظل صورة لولدها وتمسك بين كفيها مشغولا يدويا نسجه بأكفه. تهمل كل عجوز ذاكرتها خلفها، وتقتحم ليلا نسيان لا تدري فيه اسمها حينا. وهي تهجس بذلك اليوم، كما لو انه أمس، اعد نفسه لزيارة صديق  في مدينة مجاورة ، وهي تبسم له بفخر ومحبة، لم تكن شفتاها فقط من تبسمان، وجهها ، عيناها، وكفيها. لقد تنبه لامه، تضغط على راحتها ناهضة إليه، لم يسعفها العمر لتفعل ذلك ، فجاءت حركة متزامنة سريعة ليقترب منها، حيث تفاصيل وجهه، وشدت على ذراعيه :" قد تصفحت اكف كثير من العابرين ، وتفرست لهم ، ألا اقلب بين ناظري صفحة كفك؟"
ابتسم راسما قبلة في باطن كفها:" أنا بعضك، ألا تبصرين طالعي في راحة كفيك؟!"
خرج وقد صارت تقرب إليها بعض خيوط الصوف، اطل من خلف الباب:" حين أعود تكونين قد فرغت من حياكة قبعة تحتوي راسي"
 ابتسمت وقد أوصد الباب خلفه.
   مضى وقت طويل منذ أوقفه حاجز عسكري ،  ووضعه رهنا لأحكام إدارية متجددة ، وهي لازالت تجهر له قبعته ، وتسارع في إنهائها كلما اقترب موعد عودته  إليها ، وقد وهنت الخيوط، ولا زالت تفكها وتعود تنسجها.

تعليقات

المشاركات الشائعة