دهشة


دهشة

انتظرت يوما عاديا محملا باللاشيء، بدايات النهار الاعتيادية ما عادت تصدق دائما، الدقائق تحمل لها روحا مختلفة، يقف الوقت في روحها بوابة للاحتمالات الخانقة، ترى في اللحظات حالة وعي مرتبكة ترسم نفسها بعنف بقلم لا تجد معه محاولات الطمس المتكررة.


هي صفحة بلا دهشة، لم تفتح عينيها على اتساعهما من قبل، وما وقفت في حضرة اللحظات المتزحلقة فوقها صامتة على أنها تقول الكثير، ولم تسند رأسها لجدار علها تثقله بروحها، فيرفع عنها بعضا من الارتباك، ويرخي شفتيها المنقبضتين؛ على أنهما لم تبتسما.

قلبت الوقت بين كفيها، لامست أقمشة فستانها الأسود الضيق ضغطته بين راحتيها كأنها تتأكد من وجود جسدها بين طياته، جاء صوت أنفاسها عاليا، صاخبا، لم تجد أنغام الموسيقى في اخفائها، رسمت بكفها خطوطا في حدود عنقها، و أرخت عنه ثقل وشاح أسود تخالطه بعض الخطوط الفضية.

نزعت حذاءها الأسود الضيق، ودلكت قدميها، و أرخت عن وجهها ألوان المساحيق الهادئة التي  رسمت بها وجهها هذا النهار، إذ تمنت أن تكون لوحته، ومر كثير من الوقت فوق وجهيهما ولم ينتبه لوجودها.

اقتربت من لوحاتها الصاخبة، هي أول جدار أسندت رأسها إليه، وكم تراها شريكة لها تساندها لحظتها المؤلمة، وتقاسمها الخيبة. مرت بيدها مربتة مواسية وجع اللوحات. في بضع شهور ماضية وإذ كان كان يمر ناثرا عطره في المكان، مرتشفا بعض القهوة، غازل اللوحات مهديا احداها قبلة، ورتب جملته لتذهلها، ويظهر جمال ما يعي أنها رسمته بريشتها:" إنها لوحات ثمينة، لما قد تهتم فنانة راقية مثلك باقتناء الموجة التاسعة، الصرخة، اتعيشين حالة تنافس معها!"
ابتسمت مقلصة تلك المسافة الضيقة بينهما إذ تعرف أن ما قاله لم يكن إلا أنه يراها أكثر.

وقفت قريبة من لوحاتها، وقد تركت فوق بعضها ملاحظة صغيرة تحمل اسم مالكها الجديد الذي ستزين أمكنته، وهمست لها خجولة: " قد لا تصدقي تماما، لكنه قال اليوم أنك مزيفة، باهتة، وغير حقيقية."

استلقت فوق سريرخا تتامل مساحة الفراغ، وتتمنى لو أن صوته يصمت، يغادر حدود ذاكرتها، لم يتأملها اليوم، لم يقرأ معالم وجهها المسكونة بالدهشة !ذ تحدث طويلا، وبلا انقطاع، لا تذكر انها اعترضت على رأيه، لكنه أسهب في حديثه كأنه يقنعها، لم يصدمها شيء كما صدمها رأيه إذ قال أن تقليدها للوحات الفنية لفنانين مشهورين إرضاء لعجرفة أغنياء يحبون اقتناء الأشياء الثمينة، بشيء زهيد من المال، يجعلها تخلق لوحات مزيفة، وتعتاد الحيلة أكثر، تتقمص روح اللوحات المزيفة لتصبح جزءا من الزيف.

لم ير الدهشة تقتحم ملامحها، وصوت الذهول يسرق الكلمات من بين شفتيها، لم ينتبه لكل هذا إذ شغله متابعة حديثه أكثر.

أمضت وقتا لا تحرك فيه ساكنا، بدت قهوتها بلا طعم، باردة تطبق فوق صقيع روحها، صامتة لا تبادلها الحديث، ولا هي تصغي لحديثها، راقبت الحيرة في عيون الوقت وهي تتصفح وجهه ناظرا  في الغياب، في وجوه العابرين، متأملا خطوات المارة في الشارع، قارئا اللافتات المتأرجحة، مر فوق كل شيء، لكنه هذا المساء لم يترك بصمته في عينيها، لم يحدق بها طويلا، كانه لا يلمح وجودها، كان حريصا هذا المساء على طمس حضورها في نفسه، هي المرة الأولى التي لا يتسلح فيها بجمله القصيرة المغلقة، والمرة الأولىى التي تتمنى فيها لو أنه يصمت، لو أن الوقت يسرقه اليوم، لو انه يحيك له انشغالا بأي لون كان.

طوت رعشة تحركت بين كفيها، ونهضت على عجل، اقتربت من منحوتة لم تنجزها بعد، تأملت ملامح وجهه في منحوتتها، كان له عين باسمة، وشفتان لا تريان سواها.

كانت تنتظر أن يجف الطين لتدخل منحوتتها الفرن، قلبتها بين كفيها، وبامتداد ذراعيها رسمت لها مكانا آخر، إذ سمعت صوتها للمرة الاخيرة.

فتحت نافذتها وتركت لشعرها الرقص بين دفتي الريح.


تعليقات

المشاركات الشائعة