صديقتان في كتاب...... رسائل ضائعة


صديقتان في كتاب 


مر وقت طويل لم تغريني فيه الكتب للكتابة في ظلالها، و عشت لحظات، لا ليس تماماً بل بدقة أكبر، أسابيعا و ربما شهوراً من الكسل الاختياري الذي أسير إليه بنفسي، متخلفة من كل ثقل إنساني و روحي، إلا أنها التجربة الملفتة الغريبة بأسلوبها و هويتها:"كتاب أدبي نثري بصيغة رسائل" يحمل الكتاب بين دفتيه عدداً من الرسائل الضائعة في حقيبة ساعي البريد، هي رسائل نعرف مكانها إذن، فهي في حقيبة ساعي البريد، وليست في صندوق البريد، فقد خرجت منه، و صارت في حقيبة ساعي البريد؛ لكنها ضائعة عن مرسليها، وعن مستلميها.


" رسائل ضائعة في حقيبة ساعي البريد" هو عنوان كتاب أدبي نثري، يحتوي مجموعة من الرسائل لعدد من  الأدباء والكتاب من دول عربية مختلفة.

الرسائل من الفنون التي تتعدد أنواعها و أسبابها فمنها الرسمية الموجهة لهدف معين، و الرسائل الأدبية والفنية الشخصية التي يتبادلها الأفراد بينهم، وقد نشر منها العديد من الرسائل لعدد من الكتاب و الأدباء العرب، إن فكرة نشر الرسائل تنقلها من الخصوصية الفردية إلى العام المتاح لجمهور كبير من القراء، و يحولها من رسائل فردية إلى قطع أدبية فريدة و نوافذ حية للنقاش.

و بهذا القالب تتنوع الرسائل التي يتضمنها كتاب "رسائل ضائعة في حقيبة ساعي البريد"، فهي لأدباء من أقطار عربية مختلفة، إلا أنها تتحد معا بروح تجربة البوح، و الدفق الشعوري الإنساني العميق، و الرغبة الحية في التواصل مع ذاك الآخر الذي سيتلقى الرسالة، و هؤلاء الآخرين من القراء، وكل يقرأ بروح ذاته، و عميق رغبته.


صديقتان في كتاب، أفكر كثيراً قبل أن أكتب هذه الكلمات، أنا التي تحتفظ بكثير من الذاكرة و الذكريات لأماكن و أصدقاء، و بقليل متأرجح من الأصدقاء، ولا أحب على كل حال زيارة مدينة الملاهي، و أتساءل لما قد تفتر علاقتنا بالآخرين بمرور الوقت، لما لا تظل متقدة حية دائماً، وهل نبعث الرسائل الغائب البعيد الذي استهلكت الأيام من علاقتنا به الكثير، أم نرسلها لأصدقاء نحدثهم و نقترب منهم كل يوم، كل لحظة، و نبعث كلماتنا لتزيدنا اقترابا؟!


رؤى في كتاب: 

 أعلم أنك تظنني سأتحدث عن الرؤى والأحلام و الأفكار في هذا الكتاب، و ربما سأقوم بهذا لاحقاً، بعد أن أتجول بين نصوص الكاتبة رؤى رزمق، وهي تحمل في طي كلمات رسائلها كثيراً من اسمها، فعلى متن صفحاتها نطوف زوايا عديدة، لا تطرق أبوابها بل تتسلل إلى زواياها و نسترق السمع، و رؤى تكتب لنا عناوينها حتى لا نتوه في طريق مظلم ونحن نسير إلى الزنزانة، وتحدثه وهو ساكن في عتمته، ولا نعرف إن كانت الأم أم الحبيبة، و ربما الصديقة، أو الاخ، و علها تكون الأب أو العم، و ربما تكون كلهم، أو لا تكون محض طيف مر في حلمه ولم يسليه!

أما رسالة رؤى الثانية فكانت كمن يستنشق هواء بعمق بعد أن وقع في بركة ضحلة من الوحل، وهنا لا تضع عنواناً للرسالة، فالرسالة تهدى للأصدقاء وفي طي رسالتها كثير من اللوم و الألم، و فيض من الخذلان، وسوط لاذع يضرب بشدة منتقداً عبث حياتنا اليومية، تفاصيل الخضوع و الارتهان، أيدينا المكبلة بروح المادية، و حرية نتأملها من بعيد ولا نجيد رسمها!

يا سمرا رسالتك الثالثة كانت بالنسبة لي الأكثر دفء و صدقا، بدت حادة في صوتها الأول: إلى كل الذين عرفتهم، كما لو أنها إحدى رسائل الانتفاضة التي تبدأ صاخبة و كأن بها تقول: "نداء....نداء... نداء" إلا أنها تضبط إيقاعها الحسي الاجمل كرسالة مفعمة بالحياة، و بفيض من الذكريات التي تسيل من روح الأيام، وتحفر الذاكرة بك عميقاً فتظهر روحك حية حاضرة متألمة بعمق إذ تذكرين تسلسل الوقت و السنوات 2000و2004و .... وكثيراً من الذكريات بدقة.

 و لأقل أنني أحببت وجهك دائماً جميلاً كما يبدو!!وفي روح الرسالة تكنيك جميل، فهي بعنوان :"يا سمرا"، فتبدو و كأنها تحدث نفسها، لكنها تطوف بنا في ذكريات طفولة، وتتنقل من البيت إلى الحارة، فالمدرسة، الزميلة، فالجارة، و الإخوة، و تهمس سرا أن ندوب الطفولة تحفر عميقاً في الذاكرة، و تواسي نفسها فتأمل أن يكون كلام أمها ومواساتها لها حقيقياً، و ليس محض مرهم تضعه حتى يندمل الجرح إذ تقول لها:" إن الأغاني للسمراوات لأنهن الأجمل".



حنين في كتاب:

على متن الصفحة الواحدة و الخمسين و على مسافة خمس صفحات نقله على متن ثلاث رسائل ضائعة للكاتبة حنين أمين، وقد تركتها بلا عنوان و بدأت الأولى باسم المرسل إليه" عزيزتي بتول"، أما الثانية فكانت مجردة من الاسم محملة بفيض من الشعور: " عزيزي"، وجاءت الثالثة مسك و ختام" عزيزي السيد المختار"، ومختار هنا صفة"اسم مفعول" وليس لقبا مهنياً 😏.

و كأن حنين كانت تعرف في لحظة كتابة رسائلها أنها لن تصل، فبدت كمن يبوح لنفسه بكثير من الصدق، أو كمن تحادث مرآتها قبل أن تتحمل بالمساحيق، ففي الرسالة الأولى تحدثت إلى بتول الصديقة التي بنت لنفسها بيتا شاهقا في السموات، لم تعد هنا، وكثير من الفقد و الألم والخذلان، و الإحساس بتلك الهوة التي يتركها غياب أصدقاء الروح عن المكان، و نحن نعرف أن لا شيء يسمعنا مثلهم، ولا أحد نتأمل وقع خطواتنا معه كما هم!

وفي حنين روح صبية عضة تتهجأ حروف يومها، و وقع دقائقه وترسل روح نهارها له، عزيزي .... و بين هذه الحروف تستدعي الطبيعة صورها جمالها و ميادينها و تحملها الرسائل إليه، و تتهجأ حروف اسمها في صفوف الدراما إلا أنها تجده وحده من تشتاق إلى اسمها من شفتيه!

وتسند حنين كتفها مرة أخرى على كاهل الطبيعة، لتتغنى ب" عزيزي المختار"، السيد الذي تنفست الطبيعة و الشمس و لموسيقى معه، و تشاركا الطريق معا، و كثيراً من الأحاديث!

لكل هذا قلت :"و كأن حنين كانت تعرف أن رسائلها ستضيع في حقيبة ساعي البريد"، فهل نكتب رسائلنا حقا بهذا الدفء و هذا الإحساس بالأمن، و ألا نخاف من الغرق في فيض مشاعرنا إذا ما أشرعنا بوابات سدودنا؟!!

تعليقات

المشاركات الشائعة