عتم

                                                       عتم 


             يختال الوقت متأرجحا في ليل المكان، يمر هاذيا في تفاصيل السكون التي تفرش لنفسها مساحة في روح الأمكنة والأشياء. في زاوية بعيدة ساكنة تقف ساعة حائط، صامتة هي لا تنطق بالكثير. لا تشي بمرور زمن، ولا توحي بقدوم زمن آخر. صامتة هي تقف ويعبر الوقت فوق جسدها رغم توقف عقارب الساعة.

           لا تذكر تماما تلك اللحظة التي اختارت فيها أن تكسر حدود الزمن، وتهشم خطوطه، وتعيق قيوده. لم يكن ذاك خروجا عن تفاصيل اعتيادية يتقلدها الكون؛ لكنه شعور باللوم ترسله للوقت حينا، ولنفسها أحيانا؛ إذ لا تحيا ما أرادت، أوقفت تدفق الوقت في محيطها للتنفس حرية متنكرة في فضاءات روحها.


             يطبق عمر الوقت على طقوس كرسيها الأبيض، الذي ترى فيه مرتديا هذا  اللون صورة تعكس فيها ما تبحث عنه من رتابة وحرية في الرؤية، وما تنشده من نقاء ومحبة. كثيرا ما تصغي لما ترويه لها أطياف الألوان. تسمع شدوها حينا، وأنينها حينا آخر. تقرأ بها بعض غربة، وبعض حلم، وبعض حنين. 

            ترى في ألوانها حياة و روحا دافئة.عبقت كل زاوية بأطياف لون تحبه؛ فهي تؤمن بصوت الألوان وأثرها في تغيير لغة المكان وهدوئه. تنفس الليل وجهها، مر متسللا في روح ستائر نافذتها المتأرجحة بين ذراعي الريح، متدثرة بعبق خيوط زرقاء هادئة تتعانق في طقوس ارتباك مداعبة صوت الليل وحنينه.

         تركت لأنفاسها تلك المساحة لتشهق بها، تخرج من محيط غرفتها.  تفتح ذراعيها ضاغطة على عارضي الباب، تدفعهما عنها لتلقي خلفهما ألما وتدفع عنها لحظاتها. يرتعش زيها الأزرق بنعومته واضطراب مستجيبا لأنفاسها المتسارعة.  

       تمر في هدوء المكان متثاقلة منهكة، بامتداد ذراعيها النحيلين تطلق أنفاسها المخنوقة. تطلق نظراتها المذهولة باتساع المكان، عارية هي الجدران، زاهدة بكل زينة، غير ذاك اللون القرمزي الذي اختارته ليكون مرآة لجدرانها. تبدو جدرانها زاهدة بكل شيء وكل زينة. لا رسوم تزينها؛ لا صور تعبث  بركود الذاكر وتغير لون الجدار الذي اختارته .



         تستلقي على الأريكة، تدثر نفسها بذراعيها، تمر بأناملها على خطوط رقبتها تهدأ اضطرابها، وتمحو تلك القلادة الضاربة بالحمرة التي صارت تقف كما لو أنها زينة على محيط عنقها. و تدلك معصميها وتعيد لهما ارتخاءهما وحيويتهما. بعيون حائرة فرشت مساحة الأفق و لونت امتداد السقف فوق جسدها.

         قامت تحث خطاها بأقدام باردة مترددة. تطوف أروقتها التي اعتنت بكل ركن فيها. رصعت جنباتها و أطرافها بأنسجة وألوان، وبعض التحف النحاسية، وفي زاوية أخرى تركت تلك المساحة ليرسم الخشب لها عمرا جماليا تتنفس خطوطه، وتمر فوقها لتأخذ من تعرجها ووقوفها شيئا تشد بها هامتها وتمضي متجاوزة ألمها.

         تقف أمام المرآة، تقرأ في المرايا صورتها المتأرجحة، تسند قامتها أمام صفحة المرآة. تتصفح وجهها القمحي المضطرب. تحاكي خطوط عينيها التي تشي بأزمنة وأيام. لها عينان سوداوان ترى من محيط عتمتهما أفقا بعيدا خارج جدرانها المتنكرة بلونها القرمزي .

         أطلقت خصلات شعرها التي راحت تنحدر على محيط خصرها. تتغلغل بأصابعها بين خصلاتها السوداء الممتدة. تراقب امتدادهما وتتنفس عمرا مضى من جسر الوقت فوق ضفائرها؛ وقد أغفلتها حتى صارت بهذا الامتداد.

        لم يكن مجرد حلم اقتحم مساحة نومها، واختال فوق وسادتها البيضاء، لم يكن صورة لذاكرة تستيقظ في عتمة الليل، وتبحث عمن يؤنس وحدتها، بل هي أصداء خيبة مؤلمة. والخيبة لا تنسى، لا تصبح ذاكرة، لا تأخذ شكلا آخر بسهولة.

     غنى الوقت في دفاتر عمرها صدفة جمعتها به، بالأمكنة. ليل صيفي دافئ عزف موسيقاه على أوتار شعرها. وقف متأملا صورتها. قلّب بعض الأحاديث أمام مرآة عينيها. أما هي فقد تأملت في صورته حنينا قديما ردته إليها ليلة صيفية كهذه.

      قرأت في عينيه محبة. وأيقظ في روحها حنينا أودعه قلبها قبل سفره. عادت تكتشف مفردات اللغة معه. لم تكن تعي تماما إن كانت هذه صورة مثلى لما تريد. أرادت ألوانا لأنها تعجبه. زينت نفسها بعطر لأنه اختاره لها.

            كانت تقف أمام حروفه صامتة. تكتشف قدرة هائلة لشفتيه على اقتحام حصون اللغة. تتأمل بريق عينيه، وبسمة يرسمها في محيط شفتيه. لم تكن تسأل نفسها عما تحب؛ عما تريد؛ عما تفكر. كل مراياها عكست تلك الصورة التي نحتها لها بيديه. صوتها جاء دوما ارتدادا لصوته. خنقت حنجرتها، حبست أنفاسها باسم حنين استيقظ في ليلة صيفية.

         هي شيء شتته. شيء بعثره ليعود ويشكله كيف تهوى نفسه. أعدت نفسها هذا المساء لتحظى ببسمته. رداؤها الأسود يحاصر خصرها متزينا بشريط حريري فضي لامع. تنفست عطرا يلونها. وتركت شعرها حرا، يتنفسه الليل ويعزف على أوتاره. أمسكت بين ذراعيها حقيبة سوداء. وأرخت قدميها بين كفي حذاء ذي كعب عال. ذهبت ولم ترغب في هذا اليوم بشيء إلا أن تكون ما يريد وأكثر. 

      مضغ لحظات انتظار بين عقارب الساعة، لمح فيها لونا ساخرا من وجهه الموشح بملامح الترقب لوقع قدميها يكسر تأرجح الوقت أمام عينيه. لم ينفق كثيرا من الوقت في إعداد نفسه لاستقبالها. بسيطا كان، متخففا من أي عطر، مهملا ترتيب شعره. متنفسا بعض السجائر يحرق فيها لحظات ترقبه.

      تأملها وهي تزين أمكنته. حضورها في المكان يترك في عينيه حنينا واشتياقا. تنبه لزينتها. لمعصميها الذين تركتهما حرّين من أي زينة. بينما قلّب في خطوط عنقها قلادة أرسل إليها نظرات ثاقبة متتابعة. فجاءت كلماتها فخورة تنتظر منه بسمة ما:" إنها ذات القلادة، تعانق عنقي منذ سفرك. كنت قد اخترتها لي."

     لم يبد مهتما بما قالت. لم يلق له بالا. احتفى بحضوره فيها، باقتباسها كل تفاصيله. تنفس نشوة احتلاله مساحة فكرها. وطمس كل ملامح كانت تنادي باسمها. انتشى بسطوة روحه وصوته على تفكيرها، متنفسا رغبة في احتلالها. 

     افترش نفسه خانقا مساحة الهواء بينهما. ضغط على معصميها النحيلين. امتد لتكون ذراعيه قلادتها. مر بعينيه متأملا ملامح اضطرابها. وتأرجح الخيبة بين جفنيها. لأول مرة ترى في كفيه خشونة وسماكة لم تقرأها من قبل. تبصر اليوم حدة في خطوط شفتيه. 

       استنشقت ملامح  خيبة  أيقظتها في مساحة ليل هادئ. أمام مرآتها وقفت متأملة شعرها الداكن الطويل. لقد حرصت في وقوفها المتمرد هذه اللحظات على استقبال روح الصباح وقد نزعت عنها كل طيف لم يكن يشبهها.

       هجرت كل المرايا المزدانة بالرخام، وألوان النحاس، وعادت تعانق صورتها في روح مرآتها القديمة بين كفي إطار خشبي هادئ. تمر فوق خطوط الخشب البارزة. تتنفس صوت الصباح في أروقتها التي باتت تلوم غيابها.

      أصغت إلى عقارب ساعتها وقت عادت تنبض حياة، بينما يعلو صوت هاتفها، ويرتفع صوت كفيه طارقا على صفحة الباب. تتجاهل ارتطام الأصوات في أذنيها، مستمتعة بموسيقى ساعتها، مصغية لصوت احتدام المقص في امتداد شعرها الداكن. 

          

        

          

           

           

         

           

           

           

تعليقات

المشاركات الشائعة