حكاياتنا يرويها آخرون

حكاية " القهوة و الأرنب و ندفة الثلج التي ضاعت" كما تعرف عنها مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في صفحتها "  تحكي القصة تطورًا شائعًا لمرض الزهايمر من فقدان الكلمات إلى فقدان الكفاءة، وكيف تتعامل طفلةٌ مع جدّها من الوقت الذي عرفَ فيه الأسماء اللاتينية لجميع النباتات التي كان يعتني بها، إلى وقتٍ لم يعد فيه قادرًا على حلِّ ألغاز الصور المتقطعة أو ضبط جدوله. باستخدام أحاسيس كثيرة مألوفة تتوجه الحفيدة لتساعدَ جدها وتذكره وتحفزه على الانخراط معهم في كتابٍ مصورٍ تُرجم من اللغة الدنماركية."



حكاياتنا يرويها آخرون: 
يبدو العنوان حكائيا و جذابا " القهوة و الأرنب و ندفة الثلج التي ضاعت" و هو رغم سرديته و طوله كعنوان قصصي، لكنه يعيد إلى الأذهان النمط السردي التراثي التقليدي، و يعكس كعنوان النهج الغنائي التقليدي كذلك، و رغم أن هذه القصة هي واحدة من القصص المترجمة، إلا أن الثقافات تلتقي في كثير من سماتها العامة، فهذا النمط السردي و الغنائي يشبه الحكايات الغنائية الشعبية مثل 
حدوته بدوته ،،،،،،،،، طلع الشيخ ع التوتة
والتوتة بدها فاسة ،،،،،،،، والفاسة عند الحداد
والحداد بدو بيضة ،،،،،،، والبيضة عند الجاجة
والجاجة بدها علفة ،،،،، والعلفة بالطاحونة
والطاحونة مسكرة ،،،،، فيها مية معكرة ...

و هنا لا أقصد النهج السردي فحسب، بل أتحدث أكثر عن نمط و موسيقى تراتب الكلمات و تدفقها، و هذا يرتبط بجودة الترجمة بموازاة جودة الحكاية.

متن الحكاية:
تروي حكاية " القهوة و الأرنب و ندفة الثلج التي ضاعت" حكاية الجد الذي كان يعيش أيامه بدفء عائلي حميمي، و يهتم بحديقته المنزلية، و يزرع فيها أكثر من مئة و ثلاثة و عشرين نوعاً من الزهور، يعرف أسماءها جميعاً، و يحفظ الكثير عنها، و عن طبائعها، إلا أنه يعيش في مواجهة قاسية مع مرض الزهايمر، و تعرض الحكاية بتسلسل نفسي دقيق مراحل مختلفة من تآكل الذاكرة الشخصية، فنراه ينسى تفاصيل اليوم و بعض عاداته اليومية كشرب القهوة و الاعتناء بالأزهار، لكنه لا ينسى الأشخاص في البدء، ينسى إحساسه المادي بالوقت المسافات الطريق، طريق العودة إلى البيت، إحساسه بالبرد، و نكهة الأشياء.

حكاياتنا يرويها آخرون: 
لن أقول أني قرأت الحكاية كثيراً، لكني عدت مراراً لادقق في صوت الراوي، فالحكاية تروى بصوت و مرآة الحفيدة الصغيرة التي تشاطر جدها و جدتها وقتهما و طاولة الطعام، و ذاكرة الأزهار، هي تحكي عما تعرفه عن جدها، و جدتها و عما عاشته معهما، هناك إذن كثير من الحكايات التي تظل مشحونة في ذاكرة الغياب لا يعرفها ولا يدركها إلا صاحبها، هل يبدو هذا الأمر مريحاً أم تراه مرعبا؟ سيكون لدي و لديك و لدى كل واحد منا حكاياته و مشاعره و تجاربه الخاصة، لحظاته الخاصة، صندوقه الأسود الخاص الذي لا يكشفه للآخرين، فإن تاه شيء من ذاكرته، أو أضاعها كلها، فقد ذلك الجزء الدافئ الكامن فيه " صندوقه الأسود"، ولن تكون واثقا حينها من أي نسخة احتياطية، قد يخبرك أي كان بأنه احتفظ لك بها " back up كما تفعل هواتفنا بشكل يومي.

الأرقام و الذاكرة: 
لم أحب الأرقام أبدا في حياتنا بدء من الوقت، و منبه الاستيقاظ، و ضبط مواعيد الحياة، وصولاً إلى المعارف و العلوم الإحصائية، و الرياضية، و حتى كسر الأرقام القياسية، لكني أعرف أن للأرقام صوتاً مهما في أعمارنا، يترك وقعه في ذاكرتنا، كذلك فحين نقرأ نطوف بصفحات عديدة، و يعلق في ذاكرتنا بعض أرقام مما قرأنا، و يسند التاريخ نفسه على الشخوص و الأرقام، لكننا رغم كل هذا و في لحظة ما ننسى يداهمنا المرض فننسى و نقف كما لو أننا في صفوف الاحتياط من  لاعبي كرة القدم، نجلس على هذه المقاعد، نراقب المباراة على مسافة قريبة من العشب و اللاعبين، و نحن ندرك تماماً أننا لن نحصل على أي فرصة تبديل إضافية نلعب فيها شوطاً آخر، لكن مقاعد الاحتياط تبدو جيدة، حين لا يمكننا لعب دور المدرب الاحترافي بعد التقاعد ووصول السن لمرحلة يصعب معها السير خلف الكرة.

العمر و لهفة اقتناص الفرص: 
تشبه لحظة التوقف عن التذكر " الزهايمر" اللحظة التي نتنفس فيها بصوت مسموع و مخنوق بأنفاس متقطعة بعد سباق جري طويل طويل، تشعر بعده بحاجتك الملحة لكثير من الماء البارد و السكون، سكون لا تسمع فيه أنفاسك حتى، هكذا نقرر التخلي عن عبء الذاكرة، و زخم الأماكن و الأشخاص و العادات اليومية، كل تلك الأشياء التي سرقت منك العمر الفائت، تتخلى عنها لتعيش لحظتك أنت و تتواصل فيها مع ذاتك و حسب.

ذاكرة بالقرب: 
رفيق العمر ذلك الذي لن يعاتبك حين تنسى أو تغيب، و سيتبع وقع حذائك ليعرف أين تذهب، سيعيد لك ارتباطك بلحظة الآن التي تعيشها، هكذا تأتي تجربة الاقتراب من الورد و ريها ثانية مع الجد، و لمس فنجان القهوة و شم رائحتها و امساكها لتحفيز الحواس على التفاعل مع الآن الحالي و استفزاز شيء من الذاكرة دون إرهاق الجد بسرد التفاصيل التي فقدها حتى لا يشعر بالعجر، فلو أن الجدة تعاملت ببساطتنا اليومية وقالت :" ولو أنت كنت تشربها ساخنة كل يوم الصبح، و تحبها ببن برازيلي داكن، و مغلي بعناية دون إسراف، ومعها بعض الحلوى الداكنة ." لكان الجد مضغ القهوة بوجع وهو لا يقف هنا حيث هو، ولا يدرك هناك حيث وصفت الجدة في حديثها.
جاءت تجربة الاحتفال الكعك، و الثوب و الموسيقى صورة إنسانية جميلة تبني القادم من الأيام، تستند إلى الذاكرة دون أن تؤذي ذهن الجد و روحه، فهو يحس المكان لكنه لا يعرفه تماماً.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة