مسرحية رحلة جوية.... هنا فلسطين

رحلة جوية.... هنا فلسطين 



في الرابع و العشرين من نوفمبر /تشرين الثاني من العام 1998 افتتح الرئيس الراحل ياسر عرفات أول مطار فلسطيني في غزة، و بطريقة ما تستعيد رؤى رزمق خطوط البلاد المترنحة على حبال الاتفاقيات المبرمة التي قلما تتسلل من الأوراق لتدخل حيز التنفيذ، و يصحبنا المكان بتقنية لحظة الحدث

 " الآن" في رحلة جوّية ،تلقيت تذكرة الرحلة مع صديقتي حنين أمين، و استمعنا لشرح قصير حول تعبئة استبانة قبل دخول العرض، و بعد الخروج منه، كنوع من البحث المعرفي الدراماتيكي، هناك إذن ما يمكننا الاصغاء إليه خلال العرض.

 



أما الرحلة: 

بصوت ذي نكهة لطيفة يطوف مخرج العمل المسرحي عدنان البوبلي بين رواد العمل المسرحي قبل دخولهم قاعة العرض" الطائرة" كما قال، يقدم لهم التذاكر، و يضيف أن جناح الطائرة مكسور، و تبقى الرحلة معلقة في سماء المكان " فلسطين" الأرض...الماء... و السماء" منزوعة السيادة.


و على متن الخطوط الجوية الدرامية يبدو طبيعياً الإقلاع من غزة، مستعيدين المشروع الوطني الأول" غزة أريحا أولاً، الذي بات الآن أريحا، و غزة برهن الإنقسام، و تدور رحى المسرحية في أماكن ثلاثة، غزة أولاً، و غزة أخيراً، و " يانون" وهي واحدة من القرى التي أضحت تجمعات سكانية مهددة بفعل المد الاستيطاني الإسرائيلي، و المسكوبية في القدس وهو أحد نقاط التوقيف و التحقيق، هذه هي الرحلة التي تظل تراوح ذاتها، و تمضغ وجعها، و تأكل قهرها،و لا تصل بك إلى مكان.


هي فلسطين: 

هذي فلسطين وهذي النار و الجراح ... إني أطير و كل البلاد تنزف جراح، يحلق الطيار، ومن نافذته يطل على قصص و حكايات الأرض، ووجع الثبات و البقاء و المواجهة فيها، ولا أستطيع ألا استمتع بظل الحكايات على وجعها، و كلامها المخنوق ضمناً، و حين أقف بظل صوت الحكاية استعيد مسرحية" مروح على فلسطين" عمل فلسطيني أنتجه مسرح الحرية، وتناول صورة الفلسطيني المهاجر الذي يعود زائراً إلى البلاد، فيتطوف فيها، يحمل حكايته الشخصية، و يقلب بتقليب الأماكن كثيراً من الحكايات التي يشاركها مع أصدقائه، و أقاربه الذين يذهب إلى زيارتهم في أماكن مختلفة كالأغوار و بيت لحم و الخليل...




الطيران و الرحلة: 

ظلت الدعوات للمسافرين للالتحاق بالرحلة متواصلة، مر كثير منهم، كشريط سينمائي يعرض تقلب الفلسطيني في السفر، بين البطاقات الخضراء و الصفراء، و مسارب الهويات المختلفة، الدراسة، العمل، لم الشمل، بيع الدخان، سفر حقائب و حكايات تجعل من كابتن الطائرة " الطيار" شخصية مركبة متداخلة، تظهر بأصوات ثلاث، فهو الطيار الذي يحدد الموقع و الإرتفاع و مدة الرحلة، وهو الصحفي الذي يقدم وصفاً تقنياً توثيقياً في برنامج حافة الهاوية أحياناً والدليل السياحي حينا آخر، و صانع كوميديا غير محترف، لكنها كوميديا الوجع الصامت التي تفرضها اللحظة، و التي تجعل النص يتأرجح على عبارات صلفة دقيقة يفسرها بتهكم كما لو أنه معجم متنقل، و هو الطيار الذي لم يحلق في الرحلة الأولى رقم (141PF) التي انطلقت من مطار غزة في  يناير عام 1997   للخطوط الجوية الفلسطينية قبل افتتاحه رسميا فيما بعد، حاملة الحجاج الفلسطينيين من مطار بورسعيد في جمهورية مصر العربية إلى مطار جدة في السعودية، ولم يتسنى له بعدها التحليق عالياً.

وفي معرض حديثه الناقد اللاذع، يقارن بين عمله على متن الطائرة و عمله سائقاً للتاكسي، على أنه لم يوجه نقداً مباشراً لكادر الخطوط الجوية الفلسطينية العامل حتى الآن، و الطائرة على كل حال بجناح مكسور! 



أربع سيدات تروي الأماكن: 

يبدو شاعرياً أن أقول أن الأرض أنثى، و الشجرة أنثى، و السماء أنثى، لكني لا أجيد الشعر على أي حال، و ألتفت إلى سيدات تروي حكاية المكان، فهي  تعيش مخاض الولادة، لتنجب روح الأرض، في غزة تبلل الخبز و تعلقه على الحبال، و تضيء الشموع و تحرص على اطفائها حتى لا يتسلل الموت إلى حجرها،و تدوس الأرض بحثاً عن بعض أنفاس و دواء لطفلها، وفي غزة يحتدم الموت بالحياة، و يموت الشهداء، في الأرصفة والشوارع، في الأزقة، ذات تهدئة اخترقت لفرق التوقيت و حسب بين الحياة والموت، في يانون تموت الخراف، و تحترق المزروعات، و تهدم البيوت البلاستيكية ذات هجوم استيطاني لمستوطن استيقظ هذا الصباح، و اكتشف أنه لم يمارس هواية القتل و التخريب منذ بضعة أيام، وفي المسكوبية وجع إنساني و موت بطيء تفرضه أدوات التحقيق المباشرة بالتعذيب و غير المباشرة بما تفرضه من ظروف تتعلق بجودة و صحة المكان.


الصليب الأحمر الدولي: 

الحقيقية أنني أحفظ التكنولوجيا عن ظهر قلب، ولكنني لا أجيد استخدام ما أعرفه، ولم أتسلل قبل العرض إلى الاستبيان الذي يقيس مدى معرفة الجمهور بعمل الصليب الأحمر الدولي، و طبيعة الخدمات التي يقدمها، كما لم أذهب ختاماً إلى النسخة الثانية من الاستبيان، ربما لأن النص و الصوت و الصورة و صيرورة العمل المسرحي، وقفت في كل مشهد و أعطت شرحاً واضحاً لعمل المؤسسة و أدائها خلال الأزمات في المجال الزراعي، و الصحي، و الطبي، و حالات مواجهة النزاع.


هنا فلسطين.... قد لا نستطيع التحليق.... لكنها الحكايات عنقاء لها أجنحة مديدة، و عمر متجدد يخلق من الرماد كل مرة، وهذا نحن و هذي هي البلاد.

تعليقات

المشاركات الشائعة