الأسرى.... و ميلاد الحرية

 " ليس السجن هو الذي يأسرنا فحسب "ليس السجن بأسواره وأسلاكه الشائكة هو الذي يأسرنا فحسب، ولو سألتموني ما هو أهم استخلاص لك خلال هذه العقود الثلاثة التي أمضيتها في السجن، لقلت إننا فقدنا فلسطين، ليس لأننا ضعفاء، و إنما نحن ضعفاء بفعل الجهل، و منقسمون بفعل الجهل. 
الجهل هو أشد أعدائنا، والجهل هو أخطر السجون، ويحول عقلك إلى زنزانة تحتجز فيها مستقبلك ومستقبل الأجيال القادمة"


في هذه الكلمات أستعير صوت الكاتب وليد دقة، و أحرص على وضعها بين هلالين، لا لأتهرب من عبء مسؤوليتها، وليس حرصاً مهنياً بحثياً، بل هو احتياجنا للاصغاء إلى بعض من صدى أصوات المكبلين بسلاسل الأسر ، تلك التي لا تقيد أيديهم، ولا تحد حركة أقدامهم، لكنها تقف بينهم وبين القدرة على الصراخ و قول لا، بتلك البساطة المذهلة التي يصدح صوتها مدوياً، يكابد الألم، و جدارن السجن، و تعالي صوت الوقت، تصبح عقارب الساعة أكثر حدة، يعلو صوتها أكثر، فيرسم الأسير الفلسطيني لنفسه صورة مغايرة، يبدو أكثر صموداً و ثباتاً، و يأبى أن ينتهي به المطاف هنا، فهو المناضل و المحارب و صاحب الحق، وهو ليس طالباً أخفق في النجاح في امتحان ما، ليجلس في زاوية باردة مظلمة بانتظار عفو ما يناله.


في السجن و على مدار أعوام ممتدة من الاحتلال الإسرائيلي لعب الأسرى الفلسطينيين دوراً جوهرياً في النضال، و شكلّت الحركة الوطنية الأسيرة تجربةً رائدةً ومسيرةً حافلةً في العطاء على مدار سنوات المواجهة مع العدو الصهيوني، رغم قسوة الحياة الاعتقالية، ووحشية السجان، إلا أن صدق الانتماء وتطور التجربة، حوّل المعتقلات إلى قلاع ثورية تَخرّج منها آلاف الكوادر التي اهتمت بالتركيز على البعد التوعوي والتربوي؛ وقد حافظ الأسير على صلة وثيقة بمجتمعه و التطورات السياسية التي تشهدها البلاد و القضية الفلسطينية.


كتب الكثير من الأسرى، حاكوا وعينا بأيديهم، رأينا كلماتهم بقلوبنا، و سمعنا حناجرهم بأرواحنا، لا يخفت صوتهم، لا يذبل ورد يانع في ذاكرتهم، لا تغيب صورة شمس أخيرة رأوها رؤي العين، قبل أن يصبح كل ما يرونه من الشمس بضع ما يتسلل إليهم في لحظات الفورة بعد كثير من الأسقف الغبية التي تقف فوق رؤوسهم.

صدرت العديد من الكتب، و الاصدارات الأدبية الحديثة لأبناء و بنات الحركة الأسيرة، و كأنهم يتنفسون خارج الجدران، بعفوية كل كلمة يكتبونها، يروي الأسير وليد دقة علاقة الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال بوعي الكتابة، و صدى الكلمات، التي كثيراً ما تكتب فوق أوراق هشة صغيرة، و تحبس في كبسولات صغيرة فيقول:
 " في السجن نحن لا نكتب نصوصاً إنما نعيشها، في السجن أنت الناص والنص والمنصوص، في السجن بصرك حرارة تسحبك من قلبك، وسمعك سياط يجلد عقلك و حواسك من مجمل أدوات تعذيب حتى حين تريد أن تحيي فيك حسك الجماهيري، لتكتب أو ربما تؤكد لنفسك أنك على قيد الحياة" 

يكابد الأسير الفلسطيني وليد دقة سنوات سجن طويلة مستمرة منذ العام 1986، و يواجه بحزم آلاماً و أوجاعاً صحية، بصبر و ثبات المقاوم الفلسطيني، و حنكة و شموخ ابن البلاد التي غاب عنها كثيراً و لم تغب عنه لحظة.

ما زال الاحتلال الإسرائيلي يمعن في اجترار أساليب متعنتة تخنق بحثنا المضني عن الحرية، بينما يقضي الأسير عمراً طويلاً في السجن، أجيال فلسطينية تشق طريقها إلى الحياة، حين قرأت كتاب " سر الزيت" للكاتب وليد دقة، و كتاب " مريم الفلسطينية" للأسير رائد السعدي، وكل منهم يكبت ذاكرته بشكل ما، أتصفح الأوراق و أقول في ذاتي، "لم أكن إذ ذاك على قيد الحياة بعد" و بحياة موازية أفكر كيف يمكنني أن أقول قيد و حياة معاً،هل تكون الحياة قيداً في كل مكان، في كل وقت، هل نعي ذلك تماماً، هل يشبه قيدنا قيدهم، هل نصغي لصوت أسرانا الفلسطينيين الذين خاضوا و يخوضون بشكل يومي صراعاً مباشراً مع المحتل الإسرائيلي و إدارة السجون، ألا نلتفت لأوجاعهم، يكابد بعضهم المرض، والآلام الصحية غير الاعتيادية، و بالكاد يتلقون علاجاً اعتيادياً، لا يجدي نفعاً.


الصور و بعض الهتافات، و كثير من الازدحام لحظة الاصطفاف لمساندة أسير فلسطيني يخوض إضراباً قاسياً عن الطعام، أو نقف و نرفع أصواتنا و كثيراً من الصور و الرايات، لا أمل لنا في الحصول على إستثناء غير مسبوق من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، إستثناء يرفع فيه ثقل سنوات السجن الطويلة عن كاهل فلسطيني أعياه  التعب،
ألا أمل مل لنا في بعض شهور يقضيها الأسير حراً بين أهله و ذويه، يمشي في الشارع صباحاً ليشتري الحمص و الفلافل و خبز الطابون العربي، يقرأ التحايا على العابرين و يهديهم الابتسامات.


تعليقات

المشاركات الشائعة