عن جنين.... و رجال لا زالوا في الشمس


جنين لا تصرخ، لم يعلو صوتها يوماً وقد أعياها القلق، هي لا تبكي إذ تكون أبوابها مشرعة، و شبابيكها مواربة، ستجد لنفسها ظلاً ظليلاً و تسند رأسها في العتمة، و تتنفس بعضاً من التعب، كثيراً من الألم، و تشد يدها على جراح أثخنتها إلا أنها لا تقول آه، ستقضي بعضاً من الوقت في عزلتها، تحيك بعض أوشحة، و ترتق خيوط أعلام تشقق وصالها ذات قصف مدفعي... ذات قصف جوي... ذات اجتياح دموي.


ماذا نحكي عن جنين وقد عاشت ثمانية و أربعين ساعة من التحدي و المواجهة و الصمود في اجتياح إسرائيلي ديناميكي، خاضت جنين خلالها مواجهات مركبة، حيث بدأ الهجوم تحت جنح الظلام، في ساعة متأخرة من الليل في الواحدة و النصف تقريباً، بقصف جوي صاروخي مباغت، ساعات متواصلة، مدعمة بالكثير من الآليات العسكرية الإسرائيلية و بموازاة الهجوم الجوي، بدأت هجوماً مباشراً على الأرض، حفرت الأرض، و كسرت أواصر الشوارع، و هدمت البنية التحتية المتواضعة في مخيم متواضع بالكاد استفاق من الاجتياح الإسرائيلي في العام 2002، و العمليات العسكرية الإسرائيلية المباغتة التي باتت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي تنفذها بين فترة وأخرى في المدينة و مخيمها محاولة تفكيك عرى المقاومة الفلسطينية، و إطفاء جذوتها المتقدة في مخيم جنين.




حين نتحدث عن مقاومة متقدة في جنين العام 2023، لا تسرح بخيالك بعيداً، و تفكر بكثير من الدقة و الحرفية و التدريب المتواصل، روح شابة و أجيال من الشباب الفلسطيني في أول العمر يرصفون المكان أمنيات و أحلام بحرية لا زالوا يحلمون بها منذ كانوا صغاراً، وفي ذاكرة كل واحد منهم طفل صغير بالكاد كان يتهجأ الحروف، و يرصف الكلمات واحدة بعد الأخرى إذ بدأ الاجتياح الإسرائيلي في الضفة الغربية في مناطق مختلفة وواسعة في العام 2002.



 ماذا يتذكر الشباب الفلسطيني في مخيم جنين عن بلاده، و ماذا نذكر حين نقول جنين؟؟ الآن و بينما تسير في شوارعها، ستلاحظ كثيراً من الشوارع المعبدة وقد تناثرت أوصالها، و باتت كثيراً من التراب الرمادي، الأبيض أحياناً، لكنها جنين لا تكون رمادية أبداً ولا تقف كلمتها بين بين، لا إلى هنا و لا إلى هناك.


في ثمان و أربعين ساعة متواصلة من الهجوم الإسرائيلي الشرس، قدمت البلاد عشراً من شبابها شهداء و قرابين لروح الحرية و البلاد، و مئة من الجرحى و الأسرى، ولا تقف جنين بين بين، كم من ذاكرة نحتاج لنقرأ أسماء الشهداء، و نمر في ساحات المنازل المدمرة، و نشم رائحة زهر ليمون لم يترك له الاحتلال الإسرائيلي وقتاً فيثمر في فية المنزل الضيقة التي بالكاد تطل على نافذة في الجوار، و يكتم المخيم كثيراً من الأسرار، فأم محمد تشم رائحة سجائر ابن الجيران، و تعرف أنه يجلس في ركنه بعيداً عن عين أمه، لكنها لا تشي به أبدا في صباحات تقضيها مع أم محمد و كثير من الجارات في دكان أم أحمد.


قد لا يعرف الجيل الشباب الفلسطيني الآن كثيراً عن نضالات خاضها الرعيل الأول من المناضلين الفلسطينيين في الشتات، و في الأرض المحتلة، لا يعرفون ليال بلون الكحل، و ملاحقة مريرة، و قيود لا زالت مفروضة حتى اليوم، فالنضال وسام أبدي وليس جرماً يسقط بالتقادم، لكنهم يعرفون الأرض أكثر، و يمشون إليها بحنين الآباء والأجداد،  يسيرون بأعين معصوبة لكنها واثقة و بوصلتها واضحة، يسيرون تجاه حلم العودة إلى الديار التي هجر منها الآباء و الأجداد، هذا الجيل الذي لم يرسم له ذاكرة هناك في الأراضي المحتلة، لكنه لا يفوت فرصة للتسلل و قضاء بعض الوقت، قد لا يفعل أكثر من السير في شوارع فارغة، أو الاختباء خلف شجرة حتى تمر دورية عسكرية، و ربما يقضي الليل متسكعاً في أحراش مستوطنة مدعياً أنه يفتش عن عمل ما هناك.


طريق طويل محفوف بالألم، لكنها جنين تهديهم حكايات عن أبطال صنعهم الحلم، و أبطال صنعهم الغياب، ولا زلنا نحلم بالحرية..... يشق ستة من الأسرى الفلسطينيين طريقهم خارج السجن الإسرائيلي ذي الحراسة الأمنية المشددة بالملاعق، و على مسافة وقت أنفسنا القلق والتوتر مع نبض قلوبهم، و تنفسنا حرية لبعض الوقت، الحرية التي تؤخذ جزافا. 

ترث الأجيال الفلسطينية حب البلاد، كأحد الأملاك المنقولة بين الأبناء الآباء و الأحفاد، يحرق نابليون بونابرت سهول جنين، فتغسل سهولها ببعض ماء، و تضمد جراحها و تتابع المسير، تواجه الانتداب  البريطاني، أثناء الحرب العالمية الأولى، فيأتيها عز الدين القسام -ثائراً عربياً سورياً- ليضع النواة الأولى لمقاومة فلسطينية في العام 1935 ضد البريطانيين في منطقة جنين.


منذ العام 1948 و تهجير الفلسطينيين من منازلهم، واجهت جنين الاحتلال وهجرّ أهلها، و أُجبر سكانها على الهرب تحت قصف المدفعية الثقيلة لمدينتهم،تهجير تكرر و لمرات عديدة عاشته المدينة و مخيمها في العام 1967، و خلال الاجتياح الإسرائيلي العام 2002، و لم تكن أصوات المدفعية الثقيلة في العدوان الإسرائيلي الأخير في شهر حزيران العام 2023 إلا انعكاساً لخيالات التهجير و النزوح الفلسطيني المتكرر. 

ظلت جنين روح تعانق الحرية، ورد عباد الشمس التي تواجه النور دوماً، ولا تحني عنقها للظلام، ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967، فتقف بكل تحد و كبرياء، تواجه المحتل بشكل يومي، احتلال يسير مسرى الدم في شريان الحياة اليومية للمدينة، و سكانها، يلاحق ملازم الطلاب الدراسية، و زوادة العمال الذين يشقون الفجر بحثاً عن الرزق، و أوراق المعلمين، و حناجر الشعراء، و مسبحة شيخ الجامع.

تظل جنين في روح الشمس، و مرة بعد مرة تكون وقود المواجهة الأول ضد الإحتلال، ومع العام  1987 تشتعل نيىان الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بكثير من الاحتجاجات و المظاهرات، و تواجه جنين بصدر صامد اقتحاماً طويلاً لمخيمها استمر قرابة الشهرين.

الكثير من الوجع و الجراح عاشتها جنين و مخيمها على مدار سنوات من الأمل في الحرية، لا زال الجرح نازفاً، فجراح الغياب و الفقد لا تلتئم مهما مر عليها من الوقت، و جراح الأسر والاعتقال التي لا زالت تفتأ كلما كادت تندم، يعرف جيل شاب في مقتبل العمر في جنين أن الحرية بعض من أمل تحيكه سيدات يحترفن الانتظار ، و كثيراً من ذكريات بلاد لا تزال الجدات ترويها مرة بعد أخرى، يصغي الأطفال و الشباب في كل مرة، دون أن يصحح أو أن يرفع عن جدته عناء تكرار الحكاية التي حفظها عن ظهر قلب، حتى لعله يعرف أين تخبئ حفنة الملح في نملية مطبخها القديمة، التي ورثتها عن أمها، قبل أن يسطو عليها بعض غرباء جرفتهم أمواج البحر إلى أرض ليست لهم.

ملاحظة : اللوحات الفنية الإبداعية المرفقة في النص للفنان محمد سباعنة و الفنان محمد الشريف 
في محاكاة جمالية مختلفة و إبداعية للون و الإحساس بالمكان .





تعليقات

  1. جنين لاتصرخ ولا يعلو صوتها وقد اياها القلق تبقى أبوابها مواربة اه ما أجملها جنين نص رائع وبداية اجمل وجمال صورة تحاكي وجع انسان حقيقي

    ردحذف
  2. شكراً لك
    سعيدة بقراءتك النص و سعيدة برأيك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة