جدارية في المخيم ... وماتعبناش


و نستيقظ ثانية: 



تدق ساعات المنبه ثانية، مرة أخرى تنفض جدران المخيم عن عباءتها غبار اجتياح إسرائيلي، وتستيقظ البلاد على وجع بعد ليلة حالكة في سماء مدينة جنين، التجربة الأصعب في مواجهة الجراح التي لا تندمل، و ما يفتأ الجرح يبرأ، حتى يعود ثانية و بمزيد من النزف و الجراح، هي جنين، هي فلسطين و هو دائماً الأمل الذي تنظر إليه عيوننا، و تراه قريباً... قريباً مهما كان متناهياً في البعد.

المنبه: 
ما زالت كثير من عقارب الساعة تدور، و أصوات منبه الساعة يعلو، لا لشيء ربما إلا لتأكيد فعل الاستيقاظ، و التدافع ثانية في روتين الحياة اليومي الذي افتقدته شوارع المدينة و مخيمها لأيام، المنبه يدق أضبطه يومياً، لا لشيء إلا أن أصحو فأمارس سطوة اسكاته و العودة ثانية للنوم، فليس هناك الكثير ليقال عن الاستيقاظ، اليقظة، الصحو، و أضف كثيراً من السكر لقهوتك الصباحية على كل حال لتكون على متن الحدث.

و نستيقظ ثانية.... و متعبناش: 
أعرف أنك قرأت العنوان " و نستيقظ ثانية" و عدت بعض الأسطر للخلف لنتأكد إني ربما أكرر السرد مرتين، دائماً أفعل ، و متعبناش... طال المشوار و متعبناش، أحببت هذه الأغنية دائماً، بصوت رخامي قديم، يحمل كثيراً من نكهة الحجارة، العرق، و تعب طويل، و موصلناش، لكننا نكابر و " متعبناش"، لم أسمع الأغنية يتردد صداها في ذهني و حسب، بل رأيتها تتجسد صورة حية، واثقة متحركة، تملؤها الحياة، اجتياح إسرائيلي خاطف، تعب كثير، لكننا نكابر و " متعبناش" و بكثير من الضحكات و الأمل، الموسيقى و الحياة و الألوان بدأت مجموعة من الفنانين المستقلين بالشراكة مع مسرح الحرية في مخيم جنين، و عدد من المتطوعين من النادي الثقافي الشبابي، و بمشاركة صديقتي الكاتبة حنين أمين -مدير مكتب الثقافة في جنين - التي دعتني للمشاركة في نشاط بعنوان " جدارية في المخيم" هذا العنوان الشائك الجميل و أتمنى أن تسرح معي بخيالك، و هاك يدي لأصحبك على متن هذا العنوان.

جدارية في المخيم: 
ليس عنواناً عابراً، جاء بعد لحظة صمت مدوية، بعد كثير من العناوين الكلاسيكية المتناسقة، أو تلك التي توهمك بإعادة تشكيل اللغة لخلق مفاهيم و أنماط جديدة من المفردات، لكنه العنوان البديهي الموجع:" جدارية في المخيم"، و أما الجدار، فكثير من الجدران تهدمت، و تقطعت أوصالها ذات اجتياح تكتيكي خاطف، استمر ثلاثة أيام متواصلة، و أما المخيم فذاك المكان الذي يرى فيه كل لاجئ محطة انتظار مهما كان طويلاً ذاك الانتظار ، فكما قلت لك " ماتعبناش ....ماتعبناش
وحملنا الجرح.....وماتعبناش ....عدينـا الشوك ....وماتعبناش....وتحمّلنا متوجعناش" 
لأكن صادقة الحقيقة توجعنا، لكن قريحة الشاعر دفعته المكابرة.....

جدارية .... و أولاد: 
أما الجدارية فتسكن على الجدران، و سيراها أصحاب المكان، أهل البلاد كلما مروا من هنا، و سيرتها العابرون حين يمروا في كلماتهم العابرة، قبل أن ينصرفوا، و سأحدثك عن الجدارية لاحقاً، لكن صورة الحياة في تجمع كثير من الأطفال في شارع ضيق بالكاد يتسع لسيارة و بعض الجيران، صورة لا أستطيع القفز عنها، و أنا لا أجيد القفز على أي حال، تجمع كثير من الأطفال ، افترش بعضهم  الأرض، و آخرين أسندوا كتفهم إلى الجدار، و بعضهم جلس القرفصاء، نثروا بعضاً من الأوراق ، لوحات الرسم، الألوان، كثير من ريش التلوين و أقلام الرسم و التخطيط، و بداؤا برسم الخطوط و الألوان، تجمع أولاد الحي،" حي أبو كامل"_ كما قالت لي حنين_ رسموا و لونوا بالألوان المائية، و ألتحق بعضهم بأصدقائه لاحقا بعد عودته من المدرسة، نعم أنا أتحدث عن يوم السبت الخامس عشر من حزيران، و الأطفال يعودون من مدارسهم في وقت الظهيرة، في دوام استثنائي بعد إضراب طويل خاصه العاملون في قطاعات عديدة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، و لا زال الأطفال يرسمون أشجاراً.... بيوتاً.... ورداً... أمنيات... ليل.... بحر ... و نجوم
" طوّل يابحر.....طوّل ياليل....أنا و خواتي شادين الحيل واللي تعب فينا يرتاح" .

ألوان مائية ...  و أولاد: 




يرسم الأطفال بأقلام و كثير من الألوان المائية، يختارون لوحاً كرتونياً متيناً، و يضعون بعضاً من كثير من ألوان في العلب حولهم، تماماً كما يحضر فانجوخ لرسم لوحة عتيدة عنيدة، و بوعي فردي تعيدني الذاكرة لتجربة التعامل مع الأطفال و الألوان التي خبرتها بينما كنت أعمل في روضة أطفال، ألوان و أطفال، يعني أن تقلب القلق بين كفيك، و تسيل ذراعيك مع كثير من الألوان الجارية كالشلال على الجدران مرة، و على الوجوه و الملابس مرات، لكنها متعة التفكيك و إعادة التشكيل، متعة ألا تفكر بحيرة أمك حين تعود لها برداء تملؤه الألوان، متعة أن تتنفس بعمق، و تصرخ بكبرياء بصوت مكتوم، و ألوان مائية لكنها صارخة..... لا زلت تفكر في أمك... لا عليك فالأمهات تجد الحل دائماً في مكان ما.

جدارية.... و ألوان: 
على جدار ممتد في شوارع مخيم جنين، و على واجهة بعض منازل المخيم رسمت الفنانة فداء السمار، و الفنان محمد الشلبي و الفنان زيد عيسه و .....و...... و ...   و .... و سأذكر كثيراً كثيراً من الأسماء، فقد كان الإمساك باللون حالة تشبه التعلق بأنبوبة أكسجين لتلتقط بعض أنفاسك، و ترد الروح لك، و للمكان على حد سواء، فالوجع ليس في الجدارن و حسب، ليس في السيارات المحطمة النائمة في الطرقات، هو وجع عميق في الروح، وفي النفس حاجات يحكي عنها الرسم، و يشي بها اللون.




على الجدار: 

 على الجدران بلاد لا زلنا نحلم أن نعود إليها، على الجدار كلمات، و وجوه لأقمار لا تغيب، و لا تدخل في النظام الشمسي، فلا تكون محاقاً أبدا، على الجدار قبة الصخرة، و بوابة المخيم بجسدها و روحها درعاً ثابتاً، على الجدار صبر، و صبر جميل في القلوب، بعد كل الألم،  على الجدار جدة من حقول زرعين لا زالت تنتظر أن تحصد قمحها، على الجدار حصان ما زال ينتظر فارساً جوداً تركه وحيداً، على الجدار بألوان البطيخ الجنيني البلدي يكتب الفنان زيد عيسه Jenin Camp، و يكتب الفنان محمد الشلبي مخيم جنين، وفي زاوية هادئة، في ركن بعيد هادئ، تقف رحمة و صديقتها سارة و تكتبان بعضاً من كلمات و كثيراً من حلم، نرسم كثيراً، نحكي كثيراً، نلون كثيراً، و نزرع الأمل، فهو الزرع الذي يمكنه دائماً أن يطرح ثمراً، ورداً ، و أمنيات.









تعليقات

  1. دمت بكل ابداع قد نوصل بالرسم ما تعجز عنة الكلمات

    ردحذف
  2. شكراً لك صحيح اللون دائماً اكتمال الكلمة

    ردحذف
  3. كلمات ليست ك الكلمات نص بلون الامل والعزيمة سيري لتنطق الجدارية وماتعبناش وننتظر الرواية ................

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة