أول الحياة.....


أول الحياة 

أمضيت ساعات النهار أتجول في الشوارع، أقرأ صوت الوقت فوق المكان، أحسه سريعا في يوم إجازتي، يمر الوقت بطيئا كما لو أنه سلحفاة هاربة من حكايتها الكلاسيكية مع أرنب يثق أن لحافريه روحا تذرع الأرض في خطوات.



طويت الوقت بين المتاجر، ربما أكون صادقة يوماً ما فأكتب لك أنه من طواني و أنا أفتش عن رداء فاخر وعريق، كذلك الذي كانت ترتديه جدتي، لا زلت أتذكر كلماتك الدافئة و أنت تهمس لها:" غرزاتك و خيوطك كثير حلوين يا فاطمة، هالادين ملفوفين حرير." 

كنت أسمعك تقول هذا بصوت خافت، بالكاد أفهمه، و أستغرب إذ ذاك كيف كانت جدتي تسمعك، أم تراه القلب من يدير بخبث حواسنا، فتصغي لهدوء و سكون من نحب، مهما كان سمعنا ثقيلاً حين نسمع صخب و صراخ الكون من حولنا.
 لم يكن الأمر سهلا، تعرف كنت تقول لي أن هذا المكان روحه كثير من عمر أبنائه المغروسين في التراب، فرسان الغياب الحاضرين كما تصفهم، الشهداء ولكل منهم حكاية، أحلام لم تكتمل، كلمات فترت قبل أن يقولها، عمر انطفأت جذوته حين اشتعلت طقوس شوقه للحرية، و البلاد، لم أجد ثوباً مقصبا، مطرزا بكثير من عناقيد العنب، و ورد الدحنون، تنتشر يا جدي الآن الكثير من المحال التجارية، بالكاد تستطيع السير دون أن تصفع وجهك لوحة إعلانية فجة تزدحم بالألوان و السقطات اللغوية تدعوك لتدخل فتلقي نظرة على ازدحام البضائع الرثة المستوردة من أسواق خارجية هشة الجودة.


أعرف أنك ستلومني و تقول في نفسك أنني حفيدة متذمرة قليلة الخبرة و الحيلة، ولا أعرف دياري فأتجول فيها كما لو أنني سائحة، وعلي أن أعرف أين تكتنز تلك الأنامل الرقيقة التي تحيط و تحيك و تغزل عمر البلاد وما تبقى منها على صفحة فستان يصلح أن أرتديه يوم الزفاف.
هل أعترف لك أنني كنت أستمتع أكثر في المرات السابقة التي زرت فيها قريتك، وكنت أقول قريتك ولا أشعر أنها شيء يعنيني بحد ذاته، فلا أذكر أنا الحفيد الذي ولد بعد لجوء اختبرته أنت و الجدة، و نزوح مضغه أبي و أمي كلاهما معاً، بينما كنت لا أزال روحاً تشهق بالحياة، و تتعلق بحبال الوريد، في أحشاء أمي.
قرأت رسالتك لي متأخرةً جداً، أو ربما أظنك أنت من كتبها مبكراً جداً، وصفت لي شوارع قريتك الترابية البعيدة، وشجرة ليمون في وسط الساحة كما قلت، وهي لا تطرح ليموناً دائماً فعلي أن أكون صبورة، فهي ليست شجرة شهرية، لكن لونها أصفر على أي حال، لم تترك لي أو لأبي أي مفتاح لباب منزل، أو ورقة كوشان تملك بها أرضاً في القرية، لكنك كتبت لي أنك أحببت الأرض كثيراً، وعملت بها عمراً، وسقيتها ماء روحك، وكنت ابن الأرض وروحها، وفلاحها البسيط، الذي يعمل ليجني لحظة يومه.

لم يكن لك بيت بنيت حجارته بيديك، لكنك سكنت بيوتاً عديدة، قريبة دائماً من الأرض التي تعمل بها، و لكلها حوش صغير فيه جرار الزرع وبعض الورد النعناع و الميرمية، لن أخدعك و أقول لك أني مررت بها، و ألقيت عليها التحية، ووجدتها تشتاقني، و تهديك السلام، تؤلم الصورة يا جدي فقد تقدم العمر بالزمن كثيراً، و كثيراً من تلك البيوت صار سراباً بعيداً، و حالة حية في ذاكرتك، وفي روحي أنا، أحببت كل ما قلته لي عن دلاء الماء الباردة، و صواني القش، و أظنني سأجهز زاوية في بيتي فيها كثير من روح منازلك.

كتبت رسالتك لي لحظة ولادتي، كم هو مخيف و مذهل أن أقرأها بعد أعوام طويلة و أنا أعد نفسي للزفاف، قلت لي أن جدتي أعارت ثوب زفافها لجارتنا خديجة حتى ترتديه في عرسها، ثوباً مطرزاً مقصباً بكثير من زهور الدحنون و قطوف العنب، ثياب مشغولة بحرفية فاخرة، لم تعد خديجة الثوب حتى الآن، و أجدك تكتب لي لأذهب إليها و أستعيده، عليَّ أن أرتدي ثوب العائلة و إرثها كما قلت لي.
  كتبت لي رسالتك وكنت محض طفلة صغيرة بالكاد ولدت منذ لحظات، ولم يكن يمكنني قراءتها، و تأخرت عن كلماتك سنوات، لكني قرأتها فعدت و اطوفت في المكان، استنشقت هواءه، ورغبتك في الوجود، شوقك الدائم إليه،لم أجد خديجة، ولا أجد ثوب جدتي، لكني الآن هنا،لا أستطيع أن أراك، غبت بعيداً أنت أيضاً الآن في أول الحياة تماماً كما كنت أنا حين كتبت رسالتك لي، و ها أنا أرسل لك رسالتي، فربما يتسنى لك أن تقرأها في عمر آخر

تعليقات

المشاركات الشائعة