شفت البطل .... رؤى البطولة و أضغاث أحلام

ابحث لنفسك في هذا الصخب الصباحي عن ركن هادئ و ظل ظليل، تحتمي فيه من حرارة شمس آب، ستروي البلاد كثيراً عن آب المزدحم بدماء الشهداء، وبينما تسير في الشوارع في الطرقات الضيقة، ثانية تشعر و كأن الأغاني تولد مرة أخرى و طرقات الوجع، تلك الكلمات التي ترفع عن الألم ثقله، و تزيده كبرياء لثوان قليلة، نمضغ فيها القهر بكبرياء، هو قهر على أي حال، لكننا نمضغه بكبرياء فنقول بينما نسمع أغنية العاشقين التي عادت بعد سنوات طويلة من الصمت لتعيد ذكريات تراب لحظة الولادة الأولى للفرقة، في سبعينيات القرن الماضي، بكل ما حملته تلك الولادة على كتف مخيم اليرموك في سوريا من إصرار لموازنة و موازاة الكلمة النضالية بوتيرة العمل الفدائي الثائر... و اليوم نسمع ثانية حناجرهم تعلو في الشوارع بعد لحظة وجع محتدم دام في أزقة مدينة جنين، في بوابة حيها الشرقي و ثانية

 
شفت البَطَل شفتو 
شفتو إلَيّ مَش خَائِفٌ .  
مِن طلتو عرفتو 
وَأَعْمَى إلَيّ مَش شايف

كيف ومتى يولد الأبطال؟ هل يعلمون بكل ما تروي عنهم الأغنيات بعد الرحيل، أكانوا يدركون تلك الطريق المودية إلى جرف ضيق، لا يفضي إلى شيء مما كانوا يحلمون، غير كثير من الذكريات التي حرصوا على حفظها سراً، غير أنها باتت ذكريات عامة سيتغنى بها الجميع، يتحلقون حول الصور و يروي كل منهم ذاكرة ما مع هذا الشهيد أو ذاك البطل، و يصبح الموت كرامة الأحياء، بين حديث و آخر سيقال عن شهيد ما: " قبل أسبوع كان ماشي في الشارع و سلم علي" وفي مرة أخرى ربما تسمع:" قبل يومين اجا كان بدو يصلح بسكليته." و سيقولون:" كان يحب الخبز... لكنه يحب الأرض أكثر " 


بحث الأبطال دوماً عن نفق صغير مود إلى الحياة، لا يمشي الرجال إلى حتفهم معصوبي الأعين، معقودي الأيدي، يحاول كل منهم البحث في عتمة النفق عن ضوء مود إلى الحياة، فكل منهم يبذل الكثير من يومه، من وقته،ينفق الكثير من البعد و الاختفاء و الاختباء ليظل حياً، فهو يدرك منذ كان صغيراً يلعب الغميضة مع جيرانه و أولاد الحي أن عليه أن يظل متوارياً ليحدث ذلك الصخب و الإرباك لمدة أطول و أطول لبقية الأصدقاء الذين يبحثون عنه، و يحاولون إيجاده في خزانة ما، خلف شجرة بجذع عريض و سميك، تحت إناء طبخ قديم لجدة رشقت به حفيدها حين ركض مسرعاً هارباً إلى أصدقائه من فروضه المنزلية، وواجباته في رعي الأغنام.


لا ينسى الأطفال أدوارهم، لا تغيب عنهم ألعاب الأزقة، لكنها اللعبة تغير لاعبيها دائماً، وفي زمن الحكايات القصيرة، زمن اللحظة الفردية، و المواجهة الفردية، يحاول و يكابد المناضل في فردانيته ليصل معانقاً شيئاً من البطولة الفردية، بطولة يهديها إلى ذاكرة المجموع و الجموع التي ستحتشد بعد غيابه، و تسير خلفه في مسيرة حالمة.

تغذي التكنولوجيا الحديثة ذاكرتنا بكثير من الصور، غير تلك التي تعلقها على أعمدة الكهرباء، و شواخص المرور في الشوارع، وواجهات المنازل و السيارات و المحال التجارية، تدفع التكنولوجيا لنا بكثير من الصور ، ليست صور الشهداء فحسب، بل إنها أكثر تقدم لنا صور الحكاية، أصوات البحث المضني عن الحياة، عن النجاة من موت محقق، نعرفه،يعرفه كل صاحب مواجهة في الميدان، ولا يسيرون إلى الموت بأيدي معقودة، ولا بأس بقليل من الجلبة في الجوار، و أصوات تعلو فتجرح هدوء و سكون الليل... لكنهم الأبطال لا يغيبون بصمت، ولا يتنحون إلا بكبرياء.

وعن نهج الحضور التحدي والغياب 
شَفَت البَطَل هَادِي 
حَافَظ بِلَادِه عَن غَيَّب . 
يَمْشِي بِهُدًى عَادِيٌّ 
نشمي وَكَّلَه هَيْبَة . 

تغني فرقة العاشقين هذه الكلمات، على مسافة أيام من استشهاد إبراهيم النابلسي، وعن نهج صناعة الحكاية الذكرى التي لا تنسى، تحكي الكلمات كثيراً من التحدي و المواجهة في لحظات حاسمة، بعد أسابيع طويلة كثيرة من الغياب و الاختباء و التخفي، ولا يختبئ الأبطال خوفاً، إلا أنهم يختفون تحدياً و كبرياء.
وفي ذاكرة جنين القريبة تتوالي كثير من الصور، الحكايات و الأسماء، ألا تعرف بعد كيف يولد الأبطال، كيف لا تنمحي ذكراهم؟! يواجه الأبطال الغياب في طريق بحثهم المضني عن الحياة، عن الخلاص، تذكر أودية و جبال جنين الشهيد أحمد جرار، و لا تنسى عبوين عمر أبو ليلى الذي نام ليال بين أكتافها.

وبين أكتاف مخيم جنين، وعلى جنباته، في أزقته وبين جدرانه كثير من الحكايات التي ستظل تروى عن أبطال كانوا في المكان، كيف و متى تولد البطولة، هل يعرف الشهداء في غيابهم إجابة ما عن تلك البطولة التي ترويها العيون و الذكريات بعد رحيلهم، لا يبحث أحدهم عن حل فردي، عن أفق واحد، لكنهم يواجهون الموت كرامة و يرسلون لنا كثيراً من الإجابات التي نبحث عنها، لكننا لا نصغي لأصواتهم في لحظات الغياب، يعرف الشهداء كيف ومتى تولد البطولة، وماذا عن الأبطال في حضورهم و الغياب، و يقولون كثيراً كثيراً لكننا لا نصغي إذ يفجعنا الموت فتصرخ قلوبنا...ولا نكاد نسمع أصواتهم في الغياب.

تروي جنين كثيراً من الحكايات، و كل شارع ضيق، و كل زقاق فيها يقول :شَفَت السَّبْع بتمختر .... وعالملحمه نَاوِي . 
تذكر وجه زياد الزرعيني يسند كتفه لخمسة من رفاقه، و يغادرهم سريعاً، فلا وقت للبوح، ولا متسع لكثير من الكلمات يفقة بِوَجْه الْعُدّى مِثْلُ الْبَرْقِ ضاوِي . 

و تتحدث حنين أمين هذا الصباح إليك يا زياد بصوت عالٍ، نعم فبعد الاستشهاد يمكننا أن نسرق السمع لكثير من الأحاديث التي لم نكن لنكون جزءاً منها من قبل، ونرى كثيراً من الأروقة و الأماكن التي لم نكن لنلج إليها قبلاً
تقول: 
" ماذا تفعلون هناك؟  وكيف يدور الحديث؟ 
أصواتكم تعلو .. صحيح ؟ 

يشرح #أبو_علي ما حصل اليوم، يشتم بعض الشتائم، ..  وهو يشاور بيديه ويمثل ل #زياد المشهد، 
"كيف يعني أسكت لهم ؟ "

يرد #زياد  خلصت كم مخزن عليهم؟ 
أبااااااي لو بقيت
كفو كفو... يا أبو علي يا كستوني طول عمرك عنيد
...    .....         ....  
ويضحكان وتعلو الضحكات... ويتجمع باقي المشتبكين هناك"

يجتمعون هناك، و نظل هنا على مسافة من الحلم و البلاد.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة