عتم ذاكرة

لا أسير في نومي لأبني عالماً جميلاً ملوناً بكل ما أفكر به حيناً من الدهر، فتراب الحلم لزج و سأقع في وحل أمنياتي الساذجة مراراً قبل أن أطاول الحلم، و يسألني الوقت إن كنت أعرف ما يقف خلف ذهنية عقولنا و نحن  نسير في عتمة الحلم، و نتنفس ضوءه الخافت، و نخاف من الوقوف فوق عثرات الحياة، فالحلم جذاب وردي ككأس تشربه و تهيم في الغياب، ولا تعرف طريقاً للعودة.


وعلى مسافة طويلة من الحلم، و بعد أن نستيقظ في خريف لحظاتنا نعيش لحظة سير بخطى رمادية، لا إلى هنا ولا إلى هناك، نراوح أماكننا، و ربما تجرفنا اللحظات أكثر فأكثر و تعود بنا إلى متون التراخي و الفشل و لا أعرف إن كان منبه لحظاتنا يقظاً فيوقظ كبرياءنا المخدوش المترهل.


في صناديق صغيرة نجمع كثيراً من الأمنيات، الأحلام، الأشجار التي زرعناها، و ابتسامات علقناها على أغصانها، و ورد لا زال ينتظر حالماً بمواسم الإزهار، يزهر الورد، يفرش أوراقه بلون دافئ لا يلاحظه في سيره هذا الصباح، بينما يخرج منشغلاً بحديث عالق في سماعة هاتفه، و ساعة يد عالقة بين معصمه و ذاكرته، يغلقها بإحكام وهو يشير مراراً بذراعيه و يلتفت برأسه ولا زال الحديث عالقاً في سماعة هاتفه.



لا تكاد تنتهي أحاديثه حتى ينشغل ثانية بحديث آخر، ممعناً  النظر في صوت الإذاعة الصباحية، وهي تلقي كثيراً من الصباحات و التحيات قبل أن ترشق المكان بأخبار صاخبة مقلقة، تبدو المدينة صامتة، حالة مقلقة من ذلك الصمت الذي تشتهي حياله أي كلمة عابرة، ربما هو الخروج بعد ساعات من بداية الصباح، في ذلك الوقت الذي يقف بين الهروب من وميض الفجر، و الاحتماء في الظل بعيداً عن ساعات الظهيرة، الوقت الذي كانت تقول عنه " سارة" أنه وقت إشراقة النساء، و تبتسم و تقول النساء تشرق في العاشرة... العاشرة صباحاً.... لا أقصد العمر على أي حال، ولا أقصد العاشرة تماماً، فالوقت ليس من ذهب، الوقت كثير من ذكريات وبعض من حلم." 

يحب حديثها هذا، ولا زال يذكر ضحكتها الرقيقة بعد هذا التعميم الغرائبي الذي تبرر فيه تأخرها الاعتيادي كل صباح عنه، ولا يعرف أي حلم، أي لحظة أعادت له صوت سارة هذا الصباح، فكأنه يسير معها، يقلب الشوارع، و كأنه صوتها يحثه مراراً على الغوص في سوق شعبي تشتعل فيه حناجر الباعة، علهم ينفقون بضاعتهم البسيطة القليلة، و يعودون آخر النهار ببعض كعك و خبز، و يعرف أنها لن تشتري شيئاً من كل هذا الازدحام الإنساني، ستستمتع بالسير بين كل هذه البسطات و العربات الخشبية، و تحب الارتطام بأكتاف العابرين، و تقول في كل مرة أطلب منها الإنتباه:" الأكتاف تحمل كثيراً من الثقل... أقصد ثقل الحياة... نعم أكثر من الجبين ... الذراع ...." 

أذكرها تستمر في تجوالها العبثي في السوق، كما تستمر الآن تجوالها في يومي، في نهاري، في ذاكرتي، ولا زلت أشعر بنكهة غريبة هذا الصباح.

يتابع طريقه، لا يبدو مزدحماً، لكنه بالكاد يدور مقود سيارته، تشير إليه كثير من الأيادي ملوحة قبل أن تتجاوزه، و تتابع في طريقها، هل عليه أن يصل اليوم إلى أي مكان، يلتفت إلى الرصيف، وهي تجلس هناك، تحمل كثيراً من القطع الخشبية الصغيرة في صندوق ملون من الكرتون، و تفرش الرصيف ببعض قطعها الخشبية العتيقة الثمينة، نزل مقترباً منها، يسير بهدوء، ببطء حافل، كأنه ينتظر أن تحس عطره في المكان، فترفع عينها و تركض إليه، لا زال ممتعضاً، كيف لها أن تفرش وردها على الطرقات، و تبيعه للمارة، يمشي إليها أكثر، و يقف متفحصاً بعض النقوش و الرسوم و النقوش على الخشب، ولا زالت تشغل نفسها بأي شيء إلا هو، فكأنها لا تراه، كأنه ليس هنا، كأنه الغياب.

يضرب قدميه بصندوقها الكرتوني الرقيق، علها تلتفت إليه، و تتزحلق كثير من القطع و المنقوشات الخشبية، تنهض سريعاً لتجمعها و تعيدها إلى الصندوق، بينما يصرخ منادياً: "سارة".
تجمع أغراضها و تجلس إلى جانبه: 
" هل يجدر بي تغيير هذا المكان؟" 
هنا كانت تنتظرني في وقت إشراقة النساء كما تقول، و تأخرت أنا هذه المرة، و تقول لي   الجنود يسيرون في العتمة، في الظلام، و لا يحبون الوقت الذي نشرق فيه نحن النساء، تأخرت أنا هذه المرة، و أضعت سارة.



تعليقات

المشاركات الشائعة